الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال ( ومن ذبح شاة ، أو غيرها فخرج من [ ص: 6 ] بطنها جنين ميت لم يؤكل الجنين ) في قول أبي حنيفة وزفر وهو قول إبراهيم وحكم بن عيينة رحمهم الله .

وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله يؤكل . إلا أنه روي عن محمد رحمه الله أنه قال إنما يؤكل الجنين إذا أشعر وتمت خلقته . فأما قبل ذلك فهو بمنزلة المضغة فلا يؤكل واحتجوا بقول الله تعالى { ومن الأنعام حمولة وفرشا } قيل الفرش الصغار من الأجنة والحمولة الكبار فقد من الله تعالى على عباده بأكل ذلك لهم ، وفي المشهور أن النبي عليه الصلاة والسلام قال { ذكاة الجنين ذكاة أمه } معناه ذكاة الأم نائبة عن ذكاة الجنين كما يقال لسان الوزير لسان الأمير وبيع الوصي بيع اليتيم .

وروي ذكاة أمه بالنصب ومعناه بذكاة أمه إلا أنه صار منصوبا بنزع حرف الخفض عنه كقوله تعالى { ما هذا بشرا } أي ببشر وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه { أن قوما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا لننحر الجزور فيخرج من بطنها جنين ميت أفنلقيه أم نأكله فقال صلوات الله وسلامه عليه كلوه فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه } والمعنى فيه أن الذكاة تنبني على التوسع حتى يكون في الأهلي بالذبح في المذبح .

فإذا ند فبالجرح في أي موضع أصابه ; لأن ذلك وسع مثله والذي في وسعه في الجنين ذبح الأم ; لأنه ما دام مخبيا في البطن لا يتأتى فيه فعل الذبح مقصودا ، وبعد الإخراج لا يبقى حيا فتجعل ذكاة الأم ذكاة له ; لأن تأثير الذبح في الأم في زهوق الحياة عن الجنين فوق تأثير الجرح بحل رجل الصيد فالغالب هناك السلامة وهنا الهلاك ، ثم اكتفي بذلك الفعل ; لأنه وسع مثله فهنا أولى ، ولأن الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم حتى يتغذى بغذائها وينمو بنمائها ويقطع عنها بالمقراض كما في بيان الجزء من الجملة ويتبعها في الأحكام تبعية الأجزاء حتى لا يجوز استثناء في عنقها وبيعها كاستثناء يدها ورجلها وثبوت الحل في البيع لوجود فعل الذكاة في الأصل والدليل عليه أنه يحل ذبح الشاة الحامل ، ولو لم يحل الجنين بذبح الأم لما حل ذبحها حاملا لما فيه من إتلاف للحيوان لا للمأكلة ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك .

وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى { والمنخنقة } فإن أحسن أحواله أن يكون حيا عند ذبح الأم فيموت باحتباس نفسه ، وهذا هو المنخنقة { . وقال عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم رضي الله عنه إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري أن الماء قتله أم سهمك } فقد حرم الأكل عند وقوع الشك في سبب زهوق الحياة ، وذلك موجود في الجنين فإنه لا يدري أنه مات بذبح الأم ، أو باحتباس نفسه ، وقد [ ص: 7 ] يتأتى الاحتراز عنه في الجملة ; لأنه قد يتوهم انفصاله حيا ليذبح .

وعلل إبراهيم فقال ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين ومعنى هذا أن الجنين في حكم الحياة نفس على حدة مودعة في الأم حتى ينفصل حيا فيبقى ، ولا يتوهم بقاء الجزء حيا بعد الانفصال ، وكذلك بعد موت الأم يتوهم انفصال الجنين حيا ، ولا يتوهم بقاء حياة الجزء بعد موت الأصل . والذكاة تصرف في الحياة . فإذا كان في حكم الحياة نفسا على حدة فيشترط فيه ذكاة على حدة ، ولا نقول يتغذى بغذاء الأم بل يبقيه الله تعالى في بطن الأم من غير غذاء ، أو يوصل الله إليه الغذاء كيف شاء ، ثم بعد الانفصال قد يتغذى أيضا بغذاء الأم بواسطة اللبن ولم يكن في حكم الجزء ولما جعل في سائر الأحكام تبعا لم يتصور تقرر ذلك الحكم في الأم دونه حتى لا يتصور انفصاله حيا بعد موت الأم .

ولو انفصل حيا ، ثم مات لم يحل عندهم فعرفنا أنه ليس يتبع في هذا الحكم وحقيقة المعنى فيه ما بينا أن المطلوب بالذكاة تسييل الدم لتمييز الطاهر من النجس وبذبح الأم لا يحصل هذا المقصود في الجنين ، أو المقصود تطييب اللحم بالنضج الذي يحصل بالتوقد والتلهيب ، ولا يحصل ذلك في الجنين بذبح ، وهذا الجواب عما قالوا إن الذكاة تنبني على التوسع . قلنا نعم ، ولكن لا يسقط بالعذر وكما لو قتل الكلب الصيد غما ، أو اختفاء ، وهذا ; لأن المقصود لا يحصل بدون الجرح وإباحة ذبح الحامل ; لأنه يتوهم أن ينفصل الجنين حيا فيذبح ، ولأن المقصود لحم الأم وذبح الحيوان لغرض صحيح حلال كما لو ذبح ما ليس بمأكول لمقصود الجلد والمراد بالحديث التنبيه لا النيابة أي ذكاة الجنين كذكاة أمه ألا ترى أنه ذكر الجنين أولا .

ولو كان المراد النيابة لذكر النائب أولا دون المنوب عنه كما قيل في الألفاظ التي استشهد بها ومثل هذا يذكر للتشبيه يقال فلان شبه أبيه وحظ فلان حظ أبيه . وقال القائل .

وعيناك عيناها وجيدك جيدها سوى أن عظم الساق منك دقيق

والمراد التشبيه ويصح هذا التأويل في الرواية بالنصب فإن المنزوع حرف الكاف قال الله تعالى { وهي تمر مر السحاب } أي كمر السحاب ويحتمل الباء أيضا ، ولكن إن جعلنا المنزوع حرف الكاف لم يحل الجنين .

وإن جعلناه حرف الباء يحل ومتى اجتمع الموجب للحل والموجب للحرمة يغلب الموجب للحرمة والحديث مع القصة لا يكاد يصح ، ولو ثبت فالمراد من قولهم فيخرج من بطنها جنين ميت أي مشرف على الموت قال تعالى { إنك ميت وإنهم [ ص: 8 ] ميتون } ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم كلوه أي اذبحوه وكلوه والمراد بالفرش الصغار فلا يتناول الجنين ولئن كان المراد به الجنس ففيه بيان أن الجنين مأكول ، وبه نقول ، ولكن عند وجود الشرط فيه وهو أن ينفصل حيا فيذبح فيحل به والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية