الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 70 ] فصل : فإذا ثبت أن استقبال الكعبة فرض لا يجزئ أحدا صلاة فرض ولا نفل ولا جنازة ولا سجود سهو ولا تلاوة إلا أن يستقبل به الكعبة إلا في حالين استثناهما الشرع :

                                                                                                                                            أحدهما : حال المتابعة والتحام القتال

                                                                                                                                            والثانية : المتنفل في سفره سائرا ، وما سواهما يجب فيه استقبال الكعبة ، ولا يصح مع العدول عنها ، وإذا كان كذلك ، فالمتوجهون إليها على ستة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : من فرضه المشاهدة

                                                                                                                                            والثاني : من فرضه اليقين

                                                                                                                                            والثالث : من فرضه الخبر

                                                                                                                                            والرابع : من فرضه التفويض

                                                                                                                                            والخامس : من فرضه الاجتهاد

                                                                                                                                            والسادس : من فرضه التقليد

                                                                                                                                            فأما الضرب الأول : وهو من فرضه المشاهدة وهو من كان بمكة : وليس بينه وبين الكعبة حائل من مشاهدتها ، ففرضه في استقبالها المشاهدة ، فلا تصح صلاته إلا أن يكون مشاهد الكعبة ، وقد شاهدها ، لأن ظلمة الليل المانعة من المشاهدة لا تمنع من جواز الصلاة إليها ، لتقدم المشاهدة ، ثم كل موضع من الكعبة يجوز الصلاة إليه ، لأن جملتها القبلة ، فأما الحجر ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن استقباله في الصلاة جائز كالبيت ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة ، رضي الله عنها : صلي في الحجر فإنه من البيت

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن استقباله وحده في الصلاة غير جائز وهو الصحيح ، لأن الحجر ليس من البيت قطعا ، وإحاطة وإنما هو من تغلبة الظن فلم يجز العدول عن اليقين ، والنص لأجله

                                                                                                                                            وأما الضرب الثاني : وهو من فرضه اليقين فإنه لم يكن عن مشاهدة ، فهو من كان بمكة أو خارجا عنها بقليل ، وقد منعه من مشاهدتها حائط مستحدث من دار ، أو جدار ، ففرضه اليقين بالأسباب الموصلة إليه ، فإذا تيقنها صار إليها وإن لم يتيقنها لم يجز : لأن الحائل المستحدث لا يسقط فرض اليقين ، كما لو حال بينه وبين مشاهدة الكعبة رجل قائم ، وهكذا المصلي إلى كل قبلة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها بالمدينة ، وغيرها ، وهو على يقين من صوابها ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يقر على الخطأ

                                                                                                                                            وأما الضرب الثالث : وهو من فرضه الخبر فذلك على حالين :

                                                                                                                                            [ ص: 71 ] أحدهما : الضرير بمكة أو غيرها من الأمصار ، فإن كان بمكة كان الخبر عن مشاهدة . وإن كان بغيرها من البلاد كان عن تفويض

                                                                                                                                            والحال الثانية : البصير بمكة أو فيما قرب من ميقاتها إذا كان ممنوعا بحائل غير مستحدث من جبل أو أكمة فإنه يستخبر من على الجبل الحائل من المشاهدين

                                                                                                                                            وأما الضرب الرابع : وهو من فرضه التفويض فهو الراحل إلى بلد كبير كثير الأهل قد اتفقوا على قبلتهم فيه ، كالبصرة وبغداد ، فيستقبل قبلتهم تفويضا لاتفاقهم ، لأنه يتعذر مع اتفاقهم على قديم الزمان ، وتعاقب الأعصار ، وكثرة العدد أن يكونوا على خطأ يستدركه الواحد باجتهاده

                                                                                                                                            وأما الضرب الخامس : وهو من فرضه الاجتهاد فهو البصير إذا كان سائرا في بر ، أو بحر ، أو في قرية قليلة الأهل فعليه الاجتهاد في القبلة بالدلائل المنصوبة عليها ، وهل عليه في اجتهاده طلب العين أو الجهة ؟ ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو الذي نقله المزني أن عليه في اجتهاده طلب الجهة دون العين ، وهو قول أبي حنيفة ، لأن العين مع البعد عنها يتعذر إصابتها ، ولأن الصف الواحد لو امتد حتى خرج عن طول الكعبة جازت صلاة جميعهم ، ولم يلزمهم أن يعدلوا عن استواء الصف منحرفين طلبا لموافقة العين فقد علم أن بعضهم عادل عن العين إلى الجهة

                                                                                                                                            والقول الثاني : قاله في " الأم " أن الواجب عليه في اجتهاده طلب العين : فإن أخطأها إلى الجهة أجزأ : لأنه لما لزم الداني من الكعبة مصادفة عينها لزم النائي عنها في اجتهاده طلب عينها ، لأنه إنما يتوصل بالاجتهاد إلى ما كان يلزمه باليقين

                                                                                                                                            وأما الضرب السادس : وهو من فرضه التقليد وهو الضرير في السفر يقلد البصير ليجتهد له في القبلة : لأنه بذهاب بصره قد فقد آلة الاجتهاد في القبلة ، فصار كالعامي يقلد العالم في الأحكام : لفقده ما يتوصل به إلى علمها

                                                                                                                                            والفرق بين التقليد والخبر : أن التقليد يكون عن إخبار ، والخبر يكون عن يقين

                                                                                                                                            والفرق بين التقليد والتفويض : أن التقليد يحتاج إلى سؤال وجواب ، والتفويض لا يحتاج إلى سؤال ولا جواب

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية