الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر

عدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهددوا بأهواله ، لأنهم لم يكونوا جادين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن ينذروا بما يقع من الأهوال [ ص: 344 ] عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدي ما يترك فرصة للهدي والإرشاد إلا انتهزها ، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاما بالجواب عن سؤالهم كأنه حمل لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم . وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته . وقريب منه ما روي أن رجلا من المسلمين سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : متى الساعة ؟ فقال له : ماذا أعددت لها .

فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئا من تعيين وقته بتعيين أشراطه .

والفاء لتفريع الجواب عن السؤال .

و ( برق ) قرأه الجمهور بكسر الراء ، ومعناه : دهش وبهت ، يقال : برق يبرق فهو برق من باب فرح فهو من أحوال الإنسان .

وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلا له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره . كما أسند الأعشى البرق إلى الأعين في قوله :


كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان ، أي لمع البصر من شدة شخوصه ، ومضارعه يبرق بضم الراء . وإسناده إلى البصر حقيقة .

ومآل معنى القراءتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى ( واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ) ، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر ، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير .

والتعريف في ( البصر ) للجنس المراد به الاستغراق ، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت ، على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يعرضون عليه من طرائق منازلهم .

[ ص: 345 ] وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماسا مستمرا بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيرا ، وهو ما دل عليه قوله ( وجمع الشمس والقمر ) ، فهذا الخسوف ليس هو خسوفه المعتاد عندما تحول الأرض بين القمر وبين مسامتته الشمس .

ومعنى جمع الشمس والقمر : التصاق القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي .

و ( إذا برق البصر ) ظرف متعلق بـ ( يقول الإنسان ) ، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف لأنه المقصود من سياق مجاوبة قوله ( يسأل أيان يوم القيامة ) .

وطوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم ( أين المفر ) فكأنه قيل : حل يوم القيامة وحضرت أهواله يقول الإنسان يومئذ ثم تأكد بقوله ( إلى ربك يومئذ المستقر ) .

و ( يومئذ ) ظرف متعلق بـ ( يقول ) أيضا ، أي يوم إذ يبرق البصر ويخسف القمر ويجمع الشمس والقمر ، فتنوين ( إذ ) تنوين عوض عن الجملة المحذوفة التي دلت عليها الجملة التي أضيف إليها ( إذ ) .

وذكر ( يومئذ ) مع أن قوله ( إذا برق البصر ) إلخ مغن عنه للاهتمام بذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزئون فيسألون عن وقته ، وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد .

والإنسان : هو المتحدث عنه من قوله ) أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ، أي يقول الإنسان الكافر يومئذ : أين المفر .

والمفر : بفتح الميم وفتح الفاء مصدر ، والاستفهام مستعمل في التمني ، أي ليت لي فرارا في مكان نجاة ، ولكنه لا يستطيعه .

و ( أين ) ظرف مكان .

و ( كلا ) ردع وإبطال لما تضمنه ( أين المفر ) من الطمع في أن يجد للفرار سبيلا .

[ ص: 346 ] والوزر : المكان الذي يلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون .

فيجوز أن يكون ( كلا لا وزر ) كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى جوابا لمقالة الإنسان ، أي لا وزر لك ، فينبغي الوقف على ( المفر ) . ويجوز أن يكون من تمام مقالة الإنسان ، أي يقول : أين المفر ؟ ويجيب نفسه بإبطال طمعه فيقول ( كلا لا وزر ) أي لا وزر لي ، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلا النار كما ورد في الحديث ، فيحسن أن يوصل ( أين المفر ) بجملة ( كلا لا وزر ) .

وأما قوله ( إلى ربك يومئذ المستقر ) فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبيء صلى الله عليه وسلم في الدنيا بقرينة قوله يومئذ ، فهو اعتراض وإدماج للتذكير بملك ذلك اليوم .

وفي إضافة ( رب ) إلى ضمير النبيء - صلى الله عليه وسلم - إيماء إلى أنه ناصره يومئذ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته .

والمستقر : مصدر ميمي من استقر إذا قر في المكان ولم ينتقل ، والسين والتاء للمبالغة في الوصف .

وتقديم المجرور لإفادة الحصر ، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر . والمعنى : لا ملجأ يومئذ للإنسان إلا منتهيا إلى ربك ، وهذا كقوله تعالى ( وإلى الله المصير ) .

وجملة ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) مستأنفة استئنافا بيانيا أثاره قوله ( إلى ربك يومئذ المستقر ) ، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة ، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم ينبأون بما قدموا وما أخروا .

وينبغي أن يكون المراد بـ ( الإنسان ) الكافر جريا على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ) الآية . واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد ، فإن في القرآن فنونا من التذكير لا تلزم طريقة واحدة . وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة .

[ ص: 347 ] وتنبئة الإنسان بما قدم وأخر كناية عن مجازاته على ما فعله إن خيرا فخير وإن سوءا فسوء ، إذ يقال له : هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلته ويلقى جزاءها ، فكان الإنباء من لوازم الجزاء قال تعالى ( قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم ) ويحصل في ذلك الإنباء تقريع وفضح لحاله .

والمراد بـ ( ما قدم ) : ما فعله و بـ ( ما أخر ) : ما تركه مما أمر بفعله أو نهي عن فعله في الحالين فخالف ما كلف به ومما علمه النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء " فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت " .

التالي السابق


الخدمات العلمية