الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى ( فإن لم يكن واجدا للهدي في موضعه انتقل إلى الصوم ، وهو صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، لقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } فأما صوم ثلاثة أيام ( في الحج ) فلا يجوز قبل الإحرام بالحج ; لأنه صوم واجب . فلا يجوز قبل وجوبه كصوم رمضان ، ويجوز بعد الإحرام بالحج إلى يوم النحر ، والمستحب أن يفرغ منه قبل يوم عرفة فإنه يكره للحاج صوم يوم عرفة ، وهل يجوز صيامها في أيام التشريق ؟ فيه قولان ، وقد ذكرناهما في كتاب الصيام ( وأما ) صوم السبعة ففيه قولان ، قال في حرملة : لا يجوز حتى يرجع إلى أهله ، لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من كان معه هدي فليهد ، ومن لم يكن يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله } وقال في الإملاء : يصوم إذا أخذ في السير خارجا من مكة لقوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } وابتداء الرجوع إذا ابتدأ بالسير من مكة ، فإذا قلنا بهذا ففي الأفضل قولان : ( أحدهما ) الأفضل أن يصوم بعد الابتداء بالسير لأن تقديم العبادة في أول وقتها أفضل ، ( والثاني ) الأفضل أن يؤخر إلى أن يرجع إلى الوطن ليخرج من الخلاف فإن لم يصم الثلاثة حتى رجع إلى أهله لزمه صوم عشرة أيام . وهل يشترط التفريق بينهما ؟ وجهان : ( أحدهما ) ليس بشرط لأن التفريق وجب بحكم الوقت ، وقد فات فسقط كالتفريق بين الصلوات ( والثاني ) أنه يشترط وهو المذهب ; لأن ترتيب أحدهما على الآخر لا يتعلق بوقت فلم يسقط بالفوات كترتيب أفعال الصلاة ، ( فإن قلنا ) : بالوجه الأول صام عشرة أيام كيف شاء ، ( وإن قلنا ) : بالمذهب فرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء ) .

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 186 ] الشرح ) أما حديث جابر فرواه البيهقي من رواية جابر بإسناد جيد ، ورواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه هذا . وأما أحكام الفصل فقال أصحابنا : إذا وجد المتمتع الهدي في موضعه لم يجز له العدول إلى الصوم لقوله تعالى : { فمن لم يجد } وهذا مجمع عليه ، فإن عدم الهدي في موضعه لزم صوم عشرة أيام ، سواء كان له مال غائب في بلده أو غيره ، أم لم يكن ، بخلاف الكفارة فإنه يشترط في الانتقال إلى الصوم فيها العدم مطلقا ، والفرق أن بدل الدم مؤقت بكونه في الحج ولا توقيت في الكفارة ولأن الهدي يختص ذبحه بالحرم بخلاف الكفارة ، قال أصحابنا : من وجد الهدي وثمنه لكنه لا يباع إلا بأكثر من ثمن المثل فهو كالمعدوم ، فله الانتقال إلى الصوم ولو وجد الثمن وعدم الهدي في الحال وعلم أنه يجده قبل فراغ الصوم هل يجوز الانتقال إلى الصوم ؟ فيه قولان حكاهما البغوي : ( أصحهما ) الجواز وهو مقتضى كلام الجمهور ، وسبق مثل هذا الخلاف في التيمم . قال البغوي : ولو كان يرجو الهدي ولا يتيقنه جاز الصوم ، وهل يستحب انتظار الهدي ؟ فيه قولان كالتيمم ، قال : فإن لم يجد هديا لم يجز تأخير الصوم لأنه مضيق ، كمن عدم الماء يصلي بالتيمم ، ولا يجوز التأخير بخلاف جزاء الصيد ، فإنه يجوز تأخيره إذا غاب ماله ; لأنه يقبل التأخير ككفارة القتل والجماع والله أعلم .



                                      ثم الصوم الواجب يقسم ثلاثة وسبعة ، فالثلاثة يصومها في الحج ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج ، ولا يجوز صوم شيء منها يوم النحر ، وفي أيام التشريق قولان سبقا في كتاب الصيام . ويستحب صوم جميع الثلاثة قبل يوم عرفة ; لأنه يستحب للحاج فطر يوم عرفة ، ( وأما ) قول المصنف : يكره صومه فخلاف عبارة الجمهور كما سبق في بابه ، وإنما يمكنه هذا إذا تقدم إحرامه بالحج على اليوم السادس من ذي الحجة . [ ص: 187 ] وقال أصحابنا : يستحب للمتمتع الذي هو من أهل الصوم أن يحرم بالحج قبل السادس . وحكى الحناطي وجها أنه إذا لم يتوقع هديا وجب تقديم الإحرام بالحج على السابع ، ليمكنه صوم الثلاثة قبل يوم النحر ، ( والمذهب ) أنه مستحب لا واجب ، ( وأما ) واجد الهدي فيستحب أن يحرم بالحج يوم التروية ، وهو الثامن من ذي الحجة ، وقد سبق بيانه قريبا ولا يجوز تأخير الثلاثة ولا شيء منها عن يوم عرفة ، نص عليه الشافعي في المختصر ، وتابعه الأصحاب . ودليله قوله تعالى ( { ثلاثة أيام في الحج } ) . قال أصحابنا : وإذا فات صوم الثلاثة في الحج لزمه قضاؤها ، ولا دم عليه ، وخرج ابن سريج وأبو إسحاق المروزي قولا أنه يسقط الصوم ويستقر الهدي في ذمته ، حكاه الشيخ أبو حامد والماوردي وآخرون عن أبي إسحاق وحكاه المحاملي وابن الصباغ وآخرون عن ابن سريج وحكاه صاحب البيان وآخرون عنهما . والمذهب الأول ، قال أصحابنا : ويحصل فواتها بفوات يوم عرفة إن قلنا : لا يجوز صوم أيام التشريق ، وإن جوزناه حصل الفوات بخروج أيام التشريق ، ولا خلاف أنها تفوت بخروج أيام التشريق حتى لو تأخر طواف الزيارة عن أيام التشريق كأن يعيد في الحج ، وكان صوم الثلاثة بعد التشريق قضاء وإن بقي الطواف ; لأن تأخيره بعيد في العادة فلا يحمل على قول الله - تعالى - ( ثلاثة أيام في الحج ) هكذا ذكره إمام الحرمين وآخرون ، وحكى البغوي فيه وجها آخر ، قال أصحابنا : ( فإن قلنا ) : أيام التشريق يجوز له صومها فصامها كان صومها أداء والله أعلم . .



                                      ( وأما ) السبعة فوقتها إذا رجع ، وفي المراد بالرجوع قولان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أصحهما ) عند الأصحاب الرجوع إلى أهله ووطنه ، نص عليه الشافعي في المختصر وحرملة ، ( والثاني ) أنه الفراغ من الحج ، وهو نصه في الإملاء ( فإذا قلنا ) : بالوطن فالمراد به كل [ ص: 188 ] ما يقصد استيطانه بعد فراغه من الحج ، سواء كان بلده الأول أم غيره . قال أصحابنا : فلو أراد أن يتوطنمكة بعد فراغه من الحج صام بها ، وإن لم يتوطنها لم يصح صومه بها ، وهل يجوز في الطريق وهو متوجه إلى وطنه ؟ فيه طريقان : ( أصحهما ) القطع بأنه لا يجوز ، وبه قطع العراقيون ، ( والثاني ) فيه وجهان : ( أصحهما ) لا يجوز ; لأنه قبل وقته ، ( والثاني ) يجوز ; لأنه يسمى راجعا . حكاه الخراسانيون .

                                      ( وإن قلنا ) : المراد بالرجوع الفراغ فأخره حتى رجع إلى وطنه جاز ، وهل هو أفضل أم التقديم ؟ فيه قولان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أصحهما ) التأخير أفضل ، ولا يجوز صوم شيء من السبع في أيام التشريق ، وإن جوزنا صيامها لغيره فهذا لا خلاف فيه ; لأنه لا يسمى راجعا ، ولأنه يعد في الحج وإن تحلل . وحكى الخراسانيون قولا أن المراد بالرجوع الرجوع إلى مكة من منى ، وجعل إمام الحرمين والغزالي هذا قولا غير قول الفراغ من الحج ، قال الرافعي : ومقتضى كلام كثير من الأصحاب أنهما شيء واحد ، قال : وهو الأشبه ، قال : وعلى تقدير كونه قولا آخر يتفرع عليه أنه لو رجع من منى إلى مكة صح صومه ، وإن تأخر طواف الوداع ، وهذا الذي قاله الرافعي عجب ، فإن الرجوع إلى مكة غير الفراغ فقد يفرغ ويتأخر عن مكة يوما أو أياما بعد التشريق . وذكر الماوردي خلافا في معنى نصه في الإملاء قال : قال أصحابنا البصريون : مذهبه في الإملاء أنه يصومها بعد شروعه من مكة إلى وطنه ، ولا يجوز صومها في مكة قبل خروجه ، قال : وقال أصحابنا البغداديون : مذهبه في الإملاء أنه يصومها إذا رجع إلى مكة من منى بعد فراغ مناسكه ، سواء أقام بمكة أو خرج منها ، وهذا الخلاف الذي حكاه الماوردي . حكاه أيضا صاحب الشامل وآخرون فحصل في المراد بالرجوع أربعة أقوال : ( أصحها ) إذا رجع إلى أهله ، ( والثاني ) إذا توجه من مكة راجعا [ ص: 189 ] إلى أهله ، ( والثالث ) إذا رجع من منى إلى مكة ، ( والرابع ) إذا فرغ من أفعال الحج وإن لم يرجع إلى مكة والله أعلم . .



                                      ( وأما ) من بقي عليه طواف الإفاضة فلا يجوز صيامه ، سواء قلنا : الرجوع إلى أهله أم الفراغ ، سواء كان بمكة أو في غيرها ، وحكى الدارمي فيه وجها ضعيفا أنه يجوز إذا قلنا : الرجوع الفراغ . قال أصحابنا : وإذا لم يصم الثلاثة في الحج ورجع ، لزمه صوم العشرة ، فالثلاثة قضاء والسبعة أداء ، وفي الثلاثة القول المخرج السابق أنه لا يصومها ، بل تستقر الهدي في ذمته ، فعلى المذهب هل يجب التفريق بين الثلاثة والسبعة ؟ فيه قولان ، وقيل وجهان ، وهما مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أصحهما ) عند المصنف والجمهور : يجب ، قال صاحب الشامل : وبهذا الوجه قال أكثر أصحابنا ، ممن صرح بتصحيحه المصنف والماوردي ( وأصحهما ) عند إمام الحرمين لا يجب فعلى الأول هل يجب التفريق بقدر ما يكون تفريق الأداء ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) لا ، بل يكفي التفريق بيوم ، نص عليه الشافعي في الإملاء وبه قال أبو سعيد الإصطخري ( وأصحهما ) يجب ، وفي قدره أربعة أقوال تتولد من أصلين سبقا ، وهما صوم المتمتع أيام التشريق ، وأن الرجوع من ماذا ؟ .

                                      ( فإن قلنا ) بالأصح : إن المتمتع ليس له صوم أيام التشريق ، وأن الرجوع رجوعه إلى الوطن فالتفريق بأربعة أيام ، ومدة إمكان السير إلى أهله على العادة الغالبة ، وبهذا جزم المصنف وغيره ، ( وإن قلنا ) : له صومها ، والرجوع هو الرجوع إلى الوطن ، فالتفريق بمدة إمكان السير فقط ، ( وإن قلنا ) : له صومها والرجوع الفراغ فوجهان : ( أصحهما ) لا يجب التفريق ; لأنه ليس في الأداء تفريق ، وبه قطع صاحبا الشامل والبيان ( والثاني ) يجب التفريق بيوم ; لأن التفريع كله على وجوب التفريق .

                                      فإن أردت اختصار الأقوال التي تجيء فيمن لم يصم الثلاثة في الحج [ ص: 190 ] كانت ستة : ( إحداها ) لا صوم بل ينتقل إلى الهدي ، ( والثاني ) عليه صوم عشرة أيام متفرقة أو متتابعة ، ( والثالث ) عشرة ويفرق بيوم فصاعدا ، ( والرابع ) يفرق بأربعة فقط ، ( والخامس ) يفرق بمدة إمكان السير ، ( والسادس ) بأربعة ومدة إمكان السير ، وهذا أصحها فلو صام عشرة متوالية وقلنا بالمذهب : وهو وجوب قضاء الثلاثة أجزأه إن لم نشترط التفريق ، فإن شرطناه واكتفينا بالتفريق بيوم لم يعتد باليوم الرابع ويستحب ما بعده ، فيصوم يوما آخر ، هذا هو الصحيح المشهور ، وفي وجه لا يعتد بشيء سوى الثلاثة حكاه الفوراني وآخرون ، وفي وجه الإصطخري لا يعتد بالثلاثة أيضا إذا نوى السابع ، وهما شاذان ضعيفان ، وممن حكى هذا الأخير الدارمي والماوردي والرافعي وآخرون . قال الماوردي : هذا الذي قاله الإصطخري غلط فاحش ; لأن تفريق الصوم ومتابعته يتعلق بالفعل لا بالنية ، ولأن فساد بعض الأيام لا يلزم منه فساد غيره فلا يجوز إفساد الثلاثة لفساد السبعة ، قال أصحابنا : وإن شرطنا التفريق بأكثر من يوم لم يعتد بذلك القدر . هكذا ذكر الأصحاب هذا التفصيل وقال صاحب البيان بعد أن نقل هذا عن الأصحاب : ينبغي أن يقال في القول الأخير : يفرق بقدر مدة السير وثلاثة أيام لا أربعة ، وفي القول الخامس بقدر مدة السير إلا يوما ، واستدل له بما لا دلالة فيه . قال صاحب الشامل والأصحاب : قال الشافعي في الإملاء : أقل ما يفرق بينهما بيوم ، قالوا : واختلف أصحابنا في معناه فقال أبو إسحاق : هذا تفريع على جواز صيام أيام التشريق عن كل صوم له سبب ; لأنه كان يمكنه أن يفرغ من الثلاثة يوم عرفة ويفطر يوم النحر ، ثم يصوم التشريق عن سبعة . قال صاحب الشامل : وهذا الوجه خطأ فاحش من قائله ، لأن صوم السبعة لا يجوز في أيام التشريق بالإجماع ; لأنه إنما يجوز بعد فراغ الحج أو بعد الرجوع إلى أهله ، ومن أصحابنا من قال : هذا قول [ ص: 191 ] للشافعي مستقل ليس مبنيا على شيء ; لأن الله - تعالى - أمر بالتفريق بينهما ، والتفريق يحصل بيوم ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : كل واحد من صوم الثلاثة والسبعة لا يجب التتابع فيه ، لكن يستحب ، هكذا صرح به صاحب الشامل والجمهور ، وقال الدارمي : في وجوب التتابع في كل واحد منهما وجهان ، وحكى الماوردي والرافعي وغيرهما في وجوب التتابع قولا مخرجا من كفارة اليمين ، وهو شاذ ضعيف والمذهب ما سبق .



                                      ( فرع ) ينوي بهذا الصوم صوم التمتع ، وإن كان قارنا نوى صوم القران ، وإذا صام الثلاثة في الحج والسبعة بعد الرجوع لم يلزمه نية التفرقة . هذا هو المذهب ، وحكى الدارمي فيه طريقين : ( أحدهما ) هذا ، ( والثاني ) في وجوبه وجهان حكاه عن حكاية ابن القطان ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية