الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              فصل

              واختلفوا في صوم يوم الغيم . وهو ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان .

              فقال قوم : يجب صومه بنية من رمضان احتياطا ، وهذه الرواية عن أحمد : هي التي اختارها أكثر متأخري أصحابه ، وحكوها عن أكثر متقدميهم ، بناء على ما تأولوه من الحديث ، وبناء على أن الغالب على شعبان هو النقص ، فيكون الأظهر طلوع الهلال كما هو الغالب ، فيجب بغالب الظن .

              وقالت طائفة : لا يجوز صومه من رمضان . وهذه رواية عن أحمد ، اختارها طائفة من أصحابه كابن عقيل والحلواني ، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ، استدلالا بما جاء من الأحاديث ، وبناء على أن الوجوب لا يثبت بالشك .

              وهناك قول ثالث : وهو أنه يجوز صومه من رمضان ، ويجوز فطره والأفضل صومه من وقت الفجر . ومعلوم أنه لو عرف وقت [ ص: 139 ] الفجر الذي [يجوز طلوعه ] جاز له الإمساك والأكل ، وإن أمسك وقت الفجر فإنه لا معنى لاستحباب الإمساك ، لكن [ لو شك في طلوع النهار وجب عليه الإمساك ] .

              وأكثر نصوص أحمد إنما تدل على هذا القول ، وأنه كان يستحب صومه ويفعله لا أنه يوجبه ، وإنما أخذ في ذلك بما نقله عن الصحابة في مسائل ابنه عبد الله والفضل بن زياد القطان وغيرهم ، أخذ بما نقله عن عبد الله بن عمر ونحوه . والمنقول عنهم : أنهم كانوا يصومون في حال الغيم ، لا يوجبون الصوم ، وكان غالب الناس لا يصومون ، ولم ينكروا عليهم الترك .

              وإنما لم يستحب الصوم في الصحو ، بل نهى عنه : لأن الأصل والظاهر عدم الهلال ، فصومه تقديم لرمضان بيوم ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

              واختلفت الرواية عنه : هل يسمى يوم الغيم يوم شك ؟ على روايتين ، وكذلك اختلف أصحابه في ذلك .

              وأما يوم الصحو عنده : فيوم شك أو يقين من شعبان ينهى عن صومه بلا توقف . وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره ، فإن المشكوك في وجوبه - كما لو شك في وجوب زكاة ، أو كفارة ، أو صلاة ، أو غير ذلك - لا يجب فعله ولا يستحب تركه ، بل يستحب فعله احتياطا .

              [ ص: 140 ] فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط ، ولم توجب بمجرد الشك .

              وأيضا : فإن أول الشهر كأول النهار ، ولو شك في طلوع النهار لم يجب عليه الإمساك ، ولم يحرم عليه الإمساك بقصد الصوم ، ولأن الإغمام أول الشهر كالإغمام بالشك ، بل ينهى عن صوم يوم الشك ، لما يخاف من الزيادة في الفرض .

              وعلى هذا القول : يجتمع غالب المأثور عن الصحابة في هذا الباب . فإن الجماعات الذين صاموا منهم - كعمر ، وعلي ، ومعاوية ، وغيرهم - لم يصرحوا بالوجوب ، وغالب الذين أفطروا لم يصرحوا بالتحريم .

              ولعل من كره الصوم منهم إنما كرهه لمن يعتقد وجوبه ، خشية إيجاب ما ليس بواجب . كما كره من كره منهم الاستنجاء بالماء لمن خيف عليه أن يعتقد وجوبه ، وكما أمر طائفة منهم من صام في السفر أن يقضي لما ظنوه ( به ) من كراهة الفطر في السفر ، فتكون الكراهة عائدة إلى حال الفاعل ، لا إلى نفس الاحتياط بالصوم . فإن تحريم الصوم أو إيجابه كليهما فيه بعد عن أصول الشريعة . والأحاديث المأثورة في الباب إذا تؤملت إنما يصرح غالبها بوجوب الصوم بعد إكمال العدة ، كما دل بعضها على الفعل قبل الإكمال . أما الإيجاب قبل الإكمال للصوم ففيها نظر .

              فهذا القول المتوسط هو الذي يدل عليه غالب نصوص أحمد .

              ولو قيل بجواز الأمرين واستحباب الفطر لكان ( أولى من القول ) بالتحريم أو الإيجاب ، ( والذي ) يؤثر عن الصديق ( وابن عمر رضي الله عنهما ) أنهم كانوا يأكلون مع الشك في طلوع الفجر ، ولكن ( لا يجوز الأكل إذا شك في غروب الشمس ) .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية