الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                [ ص: 61 ] فصل

                                قال البخاري :

                                18 18 - حدثنا أبو اليمان : أنا شعيب عن الزهري : أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن عبادة بن الصامت وكان شهد بدرا ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه : " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ; فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة ، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله ; إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه " فبايعناه على ذلك .

                                التالي السابق


                                هذا الحديث سمعه أبو إدريس [ ... ] عن عقبة بن عامر ، عن عبادة . وزيادة " عقبة " في إسناده وهم .

                                وقد خرج البخاري الحديث في " ذكر بيعة العقبة " ، وفي " تفسير سورة الممتحنة " من كتابه هذا ، وفيه التصريح بأن أبا إدريس أخبره به عبادة وسمعه منه .

                                وكان عبادة قد شهد بدرا ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة حيث بايعت الأنصار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة .

                                [ ص: 62 ] لكن هل هذه البيعة المذكورة في هذا الحديث كانت ليلة العقبة ؟ أم لا ؟ هذا وقع فيه تردد ; فرواه ابن إسحاق ، عن الزهري ، وذكر في روايته : أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة .

                                وروى ابن إسحاق أيضا عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله ، عن الصنابحي ، عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثني عشر رجلا ، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفرض الحرب ، على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ولا نزني ، الحديث .

                                خرجه الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق هكذا .

                                وكذا رواه الواقدي عن يزيد بن أبي حبيب .

                                وخرجاه في " الصحيحين " من حديث الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن الصنابحي ، عن عبادة قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئا ، فذكر الحديث .

                                وليس هذا بالصريح في أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة .

                                ولفظ مسلم بهذه الرواية : عن عبادة بن الصامت قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : بايعناه على أن لا نشرك ، الحديث .

                                وهذا اللفظ قد يشعر بأن هذه البيعة غير بيعة النقباء .

                                [ ص: 63 ] وخرجه مسلم ، من وجه آخر من رواية أبي قلابة ، عن أبي الأشعث ، عن عبادة قال : أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخذ على النساء : أن لا نشرك بالله شيئا .

                                وهذا قد يشعر بتقدم أخذه على النساء على أخذه عليهم .

                                وخرج مسلم حديث عبادة من رواية أبي إدريس ، عنه ، وقال في حديثه : فتلا علينا آية النساء أن لا يشركن بالله شيئا الآية .

                                وخرجه البخاري في " تفسير سورة الممتحنة " من رواية ابن عيينة ، عن الزهري ، وقال فيه : وقرأ آية النساء . وأكثر لفظ سفيان : وقرأ الآية .

                                ثم قال : تابعه عبد الرزاق ، عن معمر - في الآية .

                                وكذا خرجه الإمام أحمد والترمذي وعندهما : فقرأ عليهم الآية .

                                زاد الإمام أحمد : التي أخذت على النساء إذا جاءك المؤمنات

                                وهذا تصريح بأن هذه البيعة كانت بالمدينة ; لأن آية بيعة النساء مدنية .

                                وروى هذا الحديث سفيان بن حسين ، عن الزهري ، وقال في حديثه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا هذه الآية : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا حتى فرغ من الثلاث آيات .

                                خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " .

                                [ ص: 64 ] وسفيان بن حسين ليس بقوي ، خصوصا في حديث الزهري ، وقد خالف سائر الثقات من أصحابه في هذا .

                                وقد روى عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وأن لا ينازعوا الأمر أهله ، وأن يقولوا بالحق .

                                فهذه صفة أخرى غير صفة البيعة المذكورة في الأحاديث المتقدمة .

                                وهذه البيعة الثانية مخرجة في " الصحيحين " من غير وجه عن عبادة .

                                وقد خرجها الإمام أحمد من رواية ابن إسحاق : حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن أبيه عن جده عبادة - وكان أحد النقباء - قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة الحرب ، وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى على بيعة النساء على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ، وذكر الحديث .

                                وهذه الرواية تدل على أن هذه البيعة هي بيعة الحرب ، وأن بيعة النساء كانت في العقبة الأولى قبل أن تفرض الحرب .

                                فهذا قد يشعر بأن هذه البيعة كانت بالمدينة بعد فرض الحرب ، وفي هذا نظر .

                                وقد خرجه الهيثم بن كليب في " مسنده " من رواية ابن إدريس ، عن ابن إسحاق ويحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر ، عن عبادة بن الوليد أن أباه حدثه ، عن جده قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العقبة الآخرة على السمع والطاعة ، فذكره .

                                وخرجه ابن سعد من وجه آخر ، عن عبادة بن الوليد - مرسلا .

                                [ ص: 65 ] وخرج الإمام أحمد من وجه آخر ، عن عبادة أنهم بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه البيعة على السمع والطاعة ، الحديث ، وقال فيه : وعلى أن ننصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا .

                                وهذا يدل على أن هذه البيعة كانت قبل الهجرة ، وذلك ليلة العقبة .

                                وخرج - أيضا - هذا المعنى من حديث جابر بن عبد الله أن هذه البيعة كانت للسبعين بشعب العقبة ، وهي البيعة الثانية ، وتكون سميت هذه البيعة الثانية " بيعة الحرب " ; لأن فيها البيعة على منع النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك يقتضي القتال دونه ، فهذا هو المراد بالحرب ، وقد شهد عبادة البيعتين معا .

                                ويحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع أصحابه على بيعة النساء قبل نزول آية مبايعتهن ، ثم نزلت الآية بموافقة ذلك .

                                وفي المسند عن أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة جمع النساء ، فبايعهن على هذه الآية إلى قوله : ولا يعصينك في معروف

                                وهذا قبل نزول سورة الممتحنة ، فإنها إنما نزلت قبل الفتح بيسير ، والله أعلم بحقيقة ذلك كله .

                                وأما ما بايعهم عليه فقد اتفقت روايات حديث عبادة من طرقه الثلاثة عنه ، أنهم بايعوه على أن لا يشركوا بالله ، ولا يسرقوا ، ولا يزنوا ، ولا يقتلوا .

                                [ ص: 66 ] وفي بعض الروايات : لا يقتلوا أولادهم ، كما في لفظ الآية ، وفي بعضها : لا يقتلوا النفس التي حرم الله . وهذه رواية الصنابحي ، عن عبادة .

                                ثم إن من الرواة من اقتصر على هذه الأربع ، ولم يزد عليها .

                                ومنهم من ذكر في رواية المبايعة على بقية ما ذكر في الآية ، كما في رواية البخاري المذكورة هاهنا .

                                ومنهم من ذكر خصلة خامسة بعد الأربع ، ولكن لم يذكرها باللفظ الذي في الآية ، ثم اختلفوا في لفظها ; فمنهم من قال : " ولا ننتهب " ، وهي رواية الصنابحي ، عن عبادة المخرجة في " الصحيحين " .

                                ومنهم من قال : " ولا يعضه بعضنا بعضا " وهي رواية أبي الأشعث عن عبادة ، خرجها مسلم .

                                ومنهم من قال : " ولا يغتب بعضنا بعضا " ، وهي رواية الإمام أحمد .

                                وأما الخصلة السادسة فمنهم من لم يذكرها بالكلية ، وهي رواية أبي الأشعث التي خرجها مسلم .

                                [ ص: 67 ] ومنهم من ذكرها وسماها المعصية ، فقال : " ولا نعصي " كما في رواية الصنابحي . وفي رواية أبي إدريس : " ولا تعصوا في معروف " .

                                فأما الشرك والسرقة والزنا والقتل فواضح ، وتخصيص قتل الأولاد بالذكر في بعض الروايات موافق لما ورد في القرآن في مواضع ، وليس له مفهوم ، وإنما خصص بالذكر للحاجة إليه ; فإن ذلك كان معتادا بين أهل الجاهلية .

                                وأما الإتيان ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم على ما جاء في رواية البخاري فهذا يدل على أن هذا البهتان ليس مما تختص به النساء .

                                وقد اختلف المفسرون في البهتان المذكور في آية بيعة النساء ، فأكثرهم فسروه بإلحاق المرأة بزوجها ولدا من غيره . رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وقاله مقاتل بن حيان وغيره .

                                واختلفوا في معنى قوله : بين أيديهن وأرجلهن فقيل : لأن الولد إذا ولدته أمه سقط بين يديها ورجليها .

                                وقيل : بل أراد بما تفتريه بين يديها أن تأخذ لقيطا فتلحقه بزوجها ، وبما تفتريه بين رجليها أن تلده من زنا ، ثم تلحقه بزوجها .

                                ومن المفسرين من فسر البهتان المفترى بالسحر ، ومنهم من فسره بالمشي بالنميمة والسعي في الفساد ، ومنهم من فسره بالقذف والرمي بالباطل .

                                وقيل : البهتان المفترى يشمل ذلك كله وما كان في معناه ، [ ص: 68 ] ورجحه ابن عطية وغيره .

                                وهو الأظهر ، فيدخل فيه كذب المرأة فيما ائتمنت عليه من حمل وحيض وغير ذلك .

                                ومن هؤلاء من قال : أراد بما بين يديها حفظ لسانها وفمها ووجهها عما لا يحل لها ، وبما بين رجليها حفظ فرجها ، فيحرم عليها الافتراء ببهتان في ذلك كله .

                                ولو قيل : إن من الافتراء ببهتان بين يديها خيانة الزوج في ماله الذي في بيتها - لم يبعد ذلك .

                                وقد دل مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال على أن لا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم أن ذلك لا يختص بالنساء .

                                وجميع ما فسر به البهتان في حق النساء يدخل فيه الرجال أيضا ، فيدخل فيه استلحاق الرجل ولد غيره سواء كان لاحقا غيره أو غير لاحق كولد الزنا ، ويدخل فيه الكذب والغيبة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . خرجه مسلم .

                                وكذلك القذف ، وقد سمى الله قذف عائشة بهتانا عظيما .

                                وكذلك النميمة من البهتان .

                                وفي رواية أبي الأشعث ، عن عبادة : " ولا يعضه بعضكم بعضا " .

                                [ ص: 69 ] والعضيهة : النميمة .

                                وفي " صحيح مسلم " عن ابن مسعود مرفوعا : " ألا أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة القالة بين الناس " .

                                وروى إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : كنا نسمي العضيهة السحر ، وهو اليوم : قيل وقال .

                                وفسر إسحاق بن راهويه العضيهة في حديث عبادة بن الصامت قال : " لا يبهت بعضكم بعضا " ، نقله عنه محمد بن نصر .

                                وذكر أهل اللغة أن العضيهة : الشتيمة ، والعضيهة : البهتان ، والعاضهة ، والمستعضهة : الساحرة والمستسحرة .

                                وفي رواية الصنابحي : " ولا ننتهب " ، والنهبة من البهتان ; فإن المنتهب يبهت الناس بانتهابه منه ما يرفعون إليه أبصارهم فيه .

                                وكل ما بهت صاحبه وحيره وأدهشه من قول أو فعل لم يكن في حسابه فهو بهتان ، فأخذ المال بالنهبى أو بالدعاوى الكاذبة بهتان ، وقد قال تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا

                                وفي المسند ، والترمذي ، والنسائي ، عن صفوان بن عسال أن اليهود [ ص: 70 ] سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التسع آيات البينات التي أوتيها موسى ، فقال : لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم اليهود خاصة أن لا تعدوا في السبت .

                                فلم يذكر في هذا الحديث البهتان المفترى بلفظه ، ولكن ذكر مما فسر به البهتان المذكور في القرآن عدة خصال : السحر ، والمشي ببريء إلى السلطان ، وقذف المحصنات .

                                وهذا يشعر بدخول ذلك كله في اسم البهتان .

                                وكذلك الأحاديث التي ذكر فيها عد الكبائر ، ذكر في بعضها القذف ، وفي بعضها قول الزور أو شهادة الزور ، وفي بعضها اليمين الغموس والسحر ، وهذا كله من البهتان المفترى .

                                وأما الخصلة السادسة : فهي المعصية ، وتشمل جميع أنواع المعاصي ، فهو من باب ذكر العام بعد الخاص ، وهو قريب من معنى قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون وقوله تعالى : ولا يعصينك في معروف

                                وفي بعض ألفاظ حديث عبادة " ولا تعصوا في معروف " ، وفي بعضها " ولا تعصوني في معروف " ، وقد خرجها البخاري في موضع آخر .

                                وكل هذا إشارة إلى أن الطاعة لا تكون إلا في معروف ، فلا يطاع مخلوق [ ص: 71 ] إلا في معروف ، ولا يطاع في معصية الخالق .

                                وقد استنبط هذا المعنى من هذه الآية طائفة من السلف ، فلو كان لأحد من البشر أن يطاع بكل حال لكان ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم . فلما خصت طاعته بالمعروف ، مع أنه لا يأمر إلا بما هو معروف - دل على أن الطاعة في الأصل لله وحده ، والرسول مبلغ عنه وواسطة بينه وبين عباده ، ولهذا قال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله

                                فدخل في هذه الخصلة السادسة الانتهاء عن جميع المعاصي ، ويدخل فيها أيضا القيام بجميع الطاعات على رأي من يرى أن النهي عن شيء أمر بضده .

                                فلما تمت هذه البيعة على هذه الخصال ذكر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم من وفى بها ، وحكم من لم يف بها عند الله عز وجل .

                                فأما من وفى بها فأخبر أن أجره على الله ، كذا في رواية أبي إدريس وأبي الأشعث ، عن عبادة . وفي رواية الصنابحي ، عنه : فالجنة إن فعلنا ذلك .

                                وقد قال الله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما

                                وفسر الأجر العظيم بالجنة ، كذا قاله قتادة وغيره من السلف .

                                ولا ريب أن من اجتنب الشرك والكبائر والمعاصي كلها فله الجنة ، وعلى ذلك وقعت هذه البيعة ، وإن اختصر ذلك بعض الرواة فأسقط بعض هذه الخصال .

                                [ ص: 72 ] وأما من لم يوف بها ، بل نكث بعض ما التزم بالبيعة تركه لله عز وجل . والمراد : ما عدا الشرك من الكبائر ، فقسمه إلى قسمين :

                                أحدهما : أن يعاقب به في الدنيا ، فأخبر أن ذلك كفارة له ، وفي رواية " فهو طهور له " ، وفي رواية " طهور له أو كفارة " بالشك ، ورواه بعضهم " طهور وكفارة " بالجمع .

                                وقد خرجها البخاري في موضع آخر في " صحيحه " .

                                وروى ابن إسحاق ، عن الزهري حديث أبي إدريس ، عن عبادة ، وقال فيه : " فأقيم عليه الحد فهو كفارة له " .

                                وفي رواية أبي الأشعث ، عن عبادة : " ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة " خرجه مسلم .

                                وهذا صريح في أن إقامة الحدود كفارات لأهلها .

                                وقد صرح بذلك سفيان الثوري ، ونص على ذلك أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار ، عنه .

                                وقال الشافعي : لم أسمع في هذا الباب أن الحد كفارة أحسن من حديث عبادة .

                                وإنما قال هذا ; لأنه قد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة ، عن علي ، وجرير ، وخزيمة بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو ، وغيرهم . وفي أسانيدها كلها مقال ، وحديث عبادة صحيح وثابت .

                                وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن [ ص: 73 ] أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا ؟ " وذكر كلاما آخر .

                                خرجه الحاكم ، وخرج أبو داود بعض الحديث .

                                وقد رواه هشام بن يوسف ، عن معمر ، [عن ابن أبي ذئب ] ، عن الزهري - مرسلا .

                                قال البخاري في " تاريخه " : المرسل أصح ، قال : ولا يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت عنه أن الحدود كفارة . انتهى .

                                وقد خرجه البيهقي من رواية آدم بن أبي إياس ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن أبي هريرة - مرفوعا أيضا .

                                وخرجه البزار من وجه آخر فيه ضعف ، عن المقبري ، عن أبي هريرة - مرفوعا أيضا .

                                وعلى تقدير صحته فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك قبل أن يعلمه ثم علمه ، فأخبر به جزما .

                                فإن كان الأمر كذلك ، فحديث عبادة إذن لم يكن ليلة العقبة بلا تردد ; لأن حديث أبي هريرة متأخر عن الهجرة ، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم حينئذ أن الحدود كفارة ، فلا يجوز أن يكون قد أخبر قبل الهجرة بخلاف ذلك .

                                وقد اختلف العلماء : هل إقامة الحد بمجرده كفارة للذنب من غير توبة ؟ [ ص: 74 ] أم لا ؟ على قولين :

                                أحدهما : أن إقامة الحد كفارة للذنب بمجرده ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب ، وابنه الحسن ، وعن مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد ، واختيار ابن جرير وغيره من المفسرين .

                                والثاني : أنه ليس بكفارة بمجرده ، فلا بد من توبة . وهو مروي عن صفوان بن سليم وغيره ، ورجحه ابن حزم وطائفة من متأخري المفسرين ، كالبغوي وأبي عبد الله بن تيمية وغيرهما .

                                واستدلوا بقوله تعالى في المحاربين : ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا

                                وقد يجاب عن هذا بأن عقوبة الدنيا والآخرة لا يلزم اجتماعهما ، فقد دل الدليل على أن عقوبة الدنيا تسقط عقوبة الآخرة .

                                وأما استثناء الذين تابوا فإنما استثناهم من عقوبة الدنيا خاصة ، ولهذا خصهم بما قبل القدرة ، وعقوبة الآخرة تندفع بالتوبة قبل القدرة وبعدها .

                                ويدل على أن الحد يطهر الذنب قول ماعز للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أصبت حدا فطهرني . وكذلك قالت له الغامدية ، ولم ينكر عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فدل على أن الحد طهارة لصاحبه .

                                ويدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أصاب شيئا من ذلك ، فعوقب به في الدنيا - فهو كفارته " العقوبات القدرية من الأمراض والأسقام .

                                والأحاديث في تكفير الذنوب بالمصائب كثيرة جدا .

                                [ ص: 75 ] وهذه المصائب يحصل بها للنفوس من الألم نظير الألم الحاصل بإقامة الحد ، وربما زاد على ذلك كثيرا .

                                وقد يقال : في دخول هذه العقوبات القدرية في لفظ حديث عبادة نظر ; لأنه قابل من عوقب في الدنيا ستر الله عليه ، وهذه المصائب لا تنافي الستر ، والله أعلم .

                                والقسم الثاني :

                                أن لا يعاقب في الدنيا بذنبه ، بل ستر عليه ذنبه ويعافى من عقوبته ، فهذا أمره إلى الله في الآخرة إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه .

                                وهذا موافق لقول الله عز وجل : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء

                                وفي ذلك رد على الخوارج والمعتزلة في قولهم : إن الله يخلده في النار إذا لم يتب .

                                وهذا المستور في الدنيا له حالتان :

                                إحداهما : أن يموت غير تائب ، فهذا في مشيئة الله كما ذكرنا .

                                والثانية : أن يتوب من ذنبه .

                                فقال طائفة : إنه تحت المشيئة أيضا ، واستدلوا بالآية المذكورة وحديث عبادة .

                                والأكثرون على أن التائب من الذنب مغفور له ، وأنه كمن لا ذنب له كما قال تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وقال : أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها

                                [ ص: 76 ] فيكون التائب - حينئذ - ممن شاء الله أن يغفر له .

                                واستدل بعضهم - وهو ابن حزم - بحديث عبادة هذا على أن من أذنب ذنبا فإن الأفضل له أن يأتي الإمام ، فيعترف عنده ; ليقيم عليه الحد حتى يكفر عنه ، ولا يبقى تحت المشيئة في الخطر .

                                وهذا مبني على قوله : إن التائب في المشيئة .

                                والصحيح أن التائب توبة نصوحا مغفور له جزما ، لكن المؤمن يتهم توبته ، ولا يجزم بصحتها ولا بقبولها ، فلا يزال خائفا من ذنبه وجلا .

                                ثم إن هذا القائل لا يرى أن الحد بمجرده كفارة ، وإنما الكفارة التوبة ، فكيف لا يقتصر على الكفارة بل يكشف ستر الله عليه ليقام عليه ما لا يكفر عنه ؟

                                وجمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقر به عند أحد ، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل .

                                روي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وغيرهم . ونص عليه الشافعي .

                                ومن أصحابه وأصحابنا من قال : إن كان غير معروف بين الناس بالفجور فكذلك ، وإن كان معلنا بالفجور مشتهرا به فالأولى أن يقر بذنبه عند الإمام ليطهره منه .

                                وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ : " إذا أحدثت ذنبا فأحدث عنده توبة ; إن سرا فسرا ، وإن علانية فعلانية " .

                                وفي إسناده مقال .

                                وهو إنما يدل على إظهار التوبة ، وذلك لا يلزم منه طلب إقامة الحد .

                                [ ص: 77 ] وقد وردت أحاديث تدل على أن من ستر الله عليه في الدنيا فإن الله يستر عليه في الآخرة ، كحديث ابن عمر في النجوى ، وقد خرجه البخاري في " التفسير " .

                                وخرج الترمذي ، وابن ماجه عن علي مرفوعا : " من أذنب ذنبا في الدنيا ، فستره الله عليه - فالله أكرم أن يعود في شيء قد عفا عنه " .

                                وفي " المسند " عن عائشة مرفوعا : " لا يستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره عليه في الآخرة " .

                                وروي مثله عن علي ، وابن مسعود من قولهما .

                                وقد يحمل ذلك كله على التائب من ذنبه ; جمعا بين هذه النصوص وبين حديث عبادة هذا .

                                وأصح هذه الأحاديث المذكورة هاهنا حديث ابن عمر في النجوى ، وليس فيه تصريح بأن ذلك عام لكل من ستر عليه ذنبه ، والله تعالى أعلم .

                                وقد قيل : إن البيعة سميت بيعة ; لأن صاحبها باع نفسه لله .

                                والتحقيق أن البيع والمبايعة مأخوذان من مد الباع ; لأن المتبايعين للسلعة كل منهما يمد باعه للآخر ويعاقده عليها ، وكذلك من بايع الإمام ونحوه ، فإنه يمد باعه إليه ويعاهده ويعاقده على ما يبايعه عليه .

                                وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايع أصحابه عند دخولهم في الإسلام على التزام أحكامه ، وكان أحيانا يبايعهم على ذلك بعد إسلامهم تجديدا للعهد ، وتذكيرا بالمقام عليه .

                                [ ص: 78 ] وفي " الصحيحين " عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى النساء في يوم عيد ، وتلا عليهن هذه الآية : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا الآية ، وقال : " أنتن على ذلك ؟ " فقالت امرأة منهن : نعم .

                                وفي " صحيح مسلم " عن عوف بن مالك قال : كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة ، فقال : " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " وكنا حديث عهد ببيعة ، فقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ! فقال : " ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " قلنا : بايعناك يا رسول الله ! ثم قال : " ألا تبايعون رسول الله ؟ " فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله ، فعلام نبايعك ؟ فقال : " أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، والصلوات الخمس ، وتطيعوا " وأسر كلمة خفية : " ولا تسألوا الناس شيئا " .

                                وحديث عبادة المذكور هاهنا في البيعة قد سبق أنه كان ليلة العقبة الأولى ، فيكون بيعة لهم على الإسلام والتزام أحكامه وشرائعه .

                                وقد ذكر طائفة من العلماء ، منهم القاضي أبو يعلى في كتاب " أحكام القرآن " من أصحابنا - أن البيعة على الإسلام كانت من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، واستدلوا بأن الأمر بالبيعة في القرآن يخص الرسول بالخطاب بها وحده كما قال تعالى : " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا

                                ولما كان الامتحان وجه الخطاب إلى المؤمنين عموما ، فقال : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن

                                [ ص: 79 ] فدل على أنه يعم المؤمنين .

                                وكذلك قوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم وهذا أمر يختص به الرسول صلى الله عليه وسلم ، لا يشركه فيه غيره .

                                ولكن قد روي عن عثمان أنه كان يبايع على الإسلام .

                                قال الإمام أحمد : حدثنا مسكين بن بكير قال : ثنا ثابت بن عجلان عن سليم أبي عامر أن وفد الحمراء أتوا عثمان بن عفان يبايعونه على الإسلام وعلى من وراءهم ، فبايعهم على أن لا يشركوا بالله شيئا وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان ويدعوا عيد المجوس ، فلما قالوا بايعهم .

                                وقد بايع عبد الله بن حنظلة الناس يوم الحرة على الموت ، فذكر ذلك لعبد الله بن زيد الأنصاري ، فقال : لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم !

                                خرجه البخاري في الجهاد .

                                وإنما أنكر البيعة على الموت لا أصل المبايعة .

                                وقال أبو إسحاق الفزاري : قلت للأوزاعي : لو أن إماما أتاه عدو كثير ، فخاف على من معه ، فقال لأصحابه : تعالوا نتبايع على أن لا نفر ، فبايعوا على ذلك ! قال : ما أحسن هذا ! قلت : فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام ! قال : لو فعلوا ذلك بينهم شبه العقد في غير بيعة .



                                الخدمات العلمية