الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          بعد كتابة ما تقدم رأيت في كراسة لبعض تلاميذ الأستاذ الإمام كلاما نقله من درسه في تفسير : والله عليم حليم هذا مثاله بتصرف في المعنى ، واختلاف في الأسلوب : هذا تحريض على أخذ وصية الله - تعالى - وأحكامه بقوة ، وتنبيه إلى أنه - تعالى - فرضها وهو يعلم ما فيها من الخير ، والمصلحة لنا " ، وهو بكل شيء عليم ، وإذا كنا نعلم أنه - تعالى شأنه - أعلم منا بمصالحنا ، ومنافعنا فما علينا إلا أن نذعن لوصاياه ، وفرائضه ، ونعمل بما ينزله علينا من هدايته ، وكما [ ص: 349 ] يشير اسم " العليم " هنا إلى وضع تلك الأحكام على قواعد العلم بمصلحة العباد ومنفعتهم يشير أيضا إلى وجوب مراقبة الوارثين ، والقوام على التركات لله - تعالى - في علمهم بتلك الأحكام ; لأنه عليم لا يخفى عليه حال من يلتزم الحق في ذلك ، ويقف عند حدود الله - عز وجل - ، وحال من يتعدى تلك الحدود بأكل شيء من الوصايا ، أو الدين ، أو حق صغار الوارثين ، أو النساء الذي فرضه الله لهم كما كانت تفعل الجاهلية ; ولذلك قال في الآية السابقة : إن الله كان عليما حكيما فللتذكير بعلمه - تعالى - هنا فائدتان : فائدة تتعلق بحكمة التشريع ، وفائدة تتعلق بكيفية التنفيذ .

                          وقد يخطر في البال أن المناسب الظاهر في هذه الآية أن يقرن وصف العلم بوصف الحكمة كالآية الأخرى ، فيقال : " والله عليم حكيم " ، فما هي النكتة في إيثار الوصف بالحلم على الوصف بالحكمة ، والمقام مقام تشريع ، وحث على اتباع الشريعة ; لا مقام حث على التوبة فيؤتى فيه بالحلم الذي يناسب العفو والرحمة ؟ والجواب عن ذلك : أن التذكير بعلم الله - تعالى - لما كان متضمنا لإنذار من يتعدى حدوده تعالى فيما تقدم من الوصية ، والدين ، والفرائض ، ووعيده ، وكان تحقق الإنذار ، والوعيد بعقاب معتدي الحدود وهاضم الحقوق قد يتأخر عن الذنب ، وكان ذلك مدعاة غرور الغافل ، ذكرنا - تعالى - هنا بحلمه لنعلم أن تأخر نزول العقاب لا ينافي ذلك الوعيد والإنذار ، ولا يصح أن يكون سببا للجراءة ، والاغترار ، فإن الحليم هو الذي لا تستفزه المعصية إلى التعجيل بالعقوبة ، وليس في الحلم شيء من معنى العفو والرحمة ، فكأنه يقول : لا يغرن الطامع في الاعتداء ، وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل ، فينسى علم الله - تعالى - بحقيقة حالهم ، ووعيده لأمثالهم ، فيظن أنهم بمفازة من العذاب فيتجرأ على مثل ما تجرءوا عليه من الاعتداء ، ولا يغرن المعتدي نفسه تأخر نزول الوعيد به ، فيتمادى في المعصية بدلا من المبادرة إلى التوبة ، لا يغرن هذا ولا ذاك تأخير العقوبة ، فإنه إمهال يقتضيه الحلم ، لا إهمال من العجز أو عدم العلم ، وفائدة المذنب من حلم الحليم القادر أنه يترك له وقتا للتوبة والإنابة بالتأمل في بشاعة الذنب وسوء عاقبته ، فإذا أصر المذنب على ذنبه ، ولم يبق للحلم فائدة في إصلاح شأنه ، يوشك أن يكون عقاب الحليم له أشد من عقاب السفيه على البادرة عند حدوثها ، ومن الأمثال في ذلك : " اتقوا غيظ الحليم " ذلك بأن غيظه لا يكون إلا عند آخر درجات الحلم إذا لم تبق الذنوب منه شيئا ، وعند ذلك يكون انتقامه عظيما . نعم إن حلم الله - تعالى - لا يزول ، ولكنه يعامل به كل أحد بقدر معلوم : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 : 8 ] فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بحلمه - تعالى - ، كما أنه لا ينبغي له أن يغتر بكرمه ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك [ 82 : 6 - 9 ] .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية