الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل توبيخا لهم وتبكيتا أرأيتم أخبروني وقرئ (أرأيتكم) ما تدعون ما تعبدون من دون الله من الأصنام أو جميع المعبودات الباطلة ولعله الأظهر، والموصول مفعول أول- لأرأيتم- وقوله تعالى: أروني تأكيد له فإنه بمعنى أخبروني أيضا، وقوله تعالى: ماذا خلقوا جوز فيه أن تكون (ما) اسم استفهام مفعولا مقدما- لخلقوا- وذا زائدة وأن تكون ماذا اسما واحدا مفعولا مقدما أي أي شيء خلقوا وأن تكون اسم استفهام مبتدأ أو خبرا مقدما وذا اسم موصول خبرا أو مبتدأ مؤخرا وجملة ( خلقوا ) صلة الموصول أي ما الذي خلقوه، وعلى الأولين جملة ( خلقوا ) مفعول ثان- لأرأيتم- وعلى ما بعدهما جملة (ماذا خلقوا) وجوز أن يكون الكلام من باب الإعمال وقد أعمل الثاني وحذف مفعول الأول واختاره أبو حيان ، وقيل: يحتمل أن يكون ( أروني ) بدل اشتمال من ( أرأيتم ) وقال ابن عطية : يحتمل ( أرأيتم ) وجهين: كونها متعدية وما مفعولا لها. وكونها منبهة لا تتعدى وما استفهامية على معنى التوبيخ، وهذا الثاني قاله الأخفش في أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: من الأرض تفسير للمبهم في ماذا خلقوا قيل: والظاهر أن المراد من أجزاء الأرض وبقعها، وجوز أن يكون المراد ما على وجهها من حيوان وغيره بتقدير مضاف يؤدي ذلك، ويجوز أن يراد بالأرض السفليات مطلقا ولعله أولى أم لهم شرك أي شركة مع الله سبحانه في السماوات أي في خلقها، ولعل الأولى فيها أيضا أن تفسر بالعلويات. ( وأم ) جوز أن تكون منقطعة وأن تكون متصلة، والمراد نفي استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتم وجه، فقد نفى أولا مدخليتها في خلق شيء من أجزاء العالم السفلي حقيقة واستقلالا، وثانيا مدخليتها على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلوي، ومن المعلوم أن نفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية، وتخصيص الشركة في النظم الجليل بقوله سبحانه: في السماوات مع أنه لا شركة فيها وفي الأرض أيضا لأن القصد إلزامهم بما هو مسلم لهم ظاهر لكل أحد والشركة في الحوادث السفلية ليست كذلك لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة. وقيل: الأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل ( أم ) المتصلة لوجود دليله والتقدير ألهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السماوات وهو كما ترى، وقوله تعالى: ائتوني بكتاب إلى آخره تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي فهو من جملة القول أي ائتوني بكتاب إلهي كائن من قبل هذا الكتاب أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم أو أثارة من علم أي بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم العبادة، فالأثارة مصدر كالضلالة بمعنى البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من لحم أي بقية منه. وقال القرطبي : هي بمعنى الإسناد والرواية، ومنه قول الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      إن الذي فيه تماريتما بين للسامع والآثر



                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وقتادة : المعنى أو خاصة من علم فاشتقاقها من الأثرة فكأنها قد آثر الله تعالى بها من هي عنده، وقيل: هي العلامة. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو أثارة من علم قال: الخط، وروي ذلك أيضا موقوفا على ابن عباس ، وفسر بعلم الرمل كما في حديث أبي هريرة مرفوعا [ ص: 6 ] (كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم) .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية عن الحبر أنه قال: أو أثارة من علم خط كان يخطه العرب في الأرض، وهذا ظاهر في تقوية أمر علم الرمل وأنه شيء له وجه ويرشد إلى بعض الأمور، وفي ذلك كلام يطلب من محله. وفي البحر قيل: إن صح تفسير ابن عباس الأثارة بالخط على التراب كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم، والتنوين للتقليل ( ومن علم ) صفة أي أو ائتوني بأثارة قليلة كائنة من علم إن كنتم صادقين في دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قاما على خلافها تبين بطلانها، وقرئ (إثارة) بكسر الهمز وفسرت بالمناظرة فإنها تثير المعاني، قيل: وذلك من باب الاستعارة على تشبيه ما يبرز ويتحقق بالمناظرة بما يثور من الغبار الثائر من حركات الفرسان. وقرأ علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم بخلاف عنهما. وزيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن والسلمي والأعمش وعمرو بن ميمون (أثرة) بغير ألف وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر، وعلي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وقتادة أيضا بإسكان الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر أي قد قنعت منكم بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم وعن الكسائي ضم الهمزة وإسكان الثاء فهي اسم للمقدار كالغرفة لما يغرف باليد أي ائتوني بشيء ما يؤثر من علم، وروي عنه أيضا أنه قرأ (إثرة) بكسر الهمزة وسكون الثاء وهي بمعنى الأثرة بفتحتين

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية