الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وقد جيء بالحال هنا مفردا كالضمير المنصوب في قوله : يدخله فقال : خالدا مراعاة للفظ من وقد اختار الأستاذ في نكتة ذلك أن في ذكر أهل الجنة بلفظ الجمع إشارة إلى تمتعهم بالاجتماع ، وأنس بعضهم ببعض ، والمنعم يسره أن يكون مع غيره ، قال المعري الحكيم :


                          ولو أني حبيت الخلد وحدي لما أحببت بالخلد انفرادا



                          وأما من قذفه عصيانه لله ولرسوله في النار فإن له من العذاب ما يمنعه عن الأنس بغيره ، فهو وحيد لا يجد لذة في الاجتماع بغيره ولا أنسا ، فلما كان لا يتمتع بمنفعة من منافع الاجتماع كان كأنه وحيد ، والتعبير بلفظ خالدا يشير إلى ذلك ، ويؤيد هذا المعنى الذي اختاره شيخنا قوله - تعالى - : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ 43 : 39 ] .

                          [ ص: 354 ] وظاهر الآية أن العاصي المتعدي للحدود يكون خالدا في النار ، وفي المسألة الخلاف المشهور بين الأشعرية ، وغيرهم من أهل السنة ، وبين المعتزلة ، ومن على رأيهم ، فهؤلاء يقولون : إن مرتكب المعصية القطعية الكبيرة يخلد في النار ، وأولئك يقولون : إنه لا يخلد في النار إلا من مات كافرا ، وأما من مات عاصيا فأمره إلى الله ، وهو بين أمرين ، إما أن يعفو الله عنه ويغفر له ، وإما أن يعذبه على قدر ذنبه ، ثم يدخله الجنة لقوله - تعالى - : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 : 116 ] وستأتي الآية في تفسير هذه السورة . وكل فريق من المختلفين يجعل الآية التي تدل على مذهبه أصلا يرجع إليه سائر الآيات ولو بإخراجها عن ظاهرها الذي يعبرون عنه بالتأويل .

                          قال الأستاذ الإمام : ذهب بعض المختلفين إلى أن تعدي حدود الله - تعالى - هنا يراد به جميع الحدود لا جنسها ، ومن تعدى حدود الله كلها ولم يقف عند شيء منها فهو كافر خالد في النار . وقال بعضهم : إن التعدي يصدق بالبعض وهو يكون من الكفر وجحود الحكم بعدم الإذعان له ، والجحود : إما صريح ، وإما غير صريح ، ولكنه حقيقي ، وإن لم يصرح به صاحبه ، فإن أخذ شيء من حق إنسان ، وإعطاءه لآخر لا يكون إلا من إنكار حكم الله في تحريم ذلك ، أو الشك فيه ، وإن الحاكم إذا ثبتت عنده السرقة فحبس السارق ولم يقطع يده كان منكرا للحد الذي أوجب الله معاقبة السارق به ، أو مستقبحا له ، وكلاهما من الكفر ، وإن لم يصرح به صاحبه .

                          ثم قال ما مثاله : وإذا تأملتم في هذا الخلاف بين أهل السنة ، والمعتزلة تجدونه لفظيا ، فإن الكلام في المصر على الذنب مع العلم بأنه ذنب ; لأنه - تعالى - قال في الناجين المسارعين إلى الجنة : ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون [ 3 : 135 ] - [ راجع ص112 وما بعدها ج 4 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب من التفسير ] - فإن من يعمل الذنب ، ولا يخطر في باله عند ارتكابه أنه منهي عنه لا يعد مصرا عالما ، وقد بينا من قبل أن للمذنب حالتين ، وإننا نعيد ذلك ولا نزال نلح في تقريره إلى أن نموت .

                          الحالة الأولى : غلبة الباعث النفسي من الشهوة ، أو الغضب على الإنسان حتى يغيب عن ذهنه الأمر الإلهي فيقع في الذنب ، وقلبه غائب عن الوعيد غير متذكر للنهي ، وإذا تذكره يكون ضعيفا كنور ضئيل يلوح في ظلمة ذلك الباعث المتغلب ، ثم لا يلبث أن يزول أو يختفي ، فإذا سكنت شهوته أو سكت عنه غضبه وتذكر النهي والوعيد ندم وتاب ، ووقع من نفسه في أشد اللوم والعتاب ، وذلك ضرب من ضروب العقاب ، وصاحبه جدير بالنجاة في يوم المآب .

                          الحالة الثانية : أن يقدم المرء على الذنب جريئا عليه متعمدا ارتكابه عالما بتحريمه مؤثرا له على الطاعة بتركه لا يصرفه عنه تذكر النهي والوعيد عليه ، فهذا هو الذي قد أحاطت [ ص: 355 ] به خطيئته حتى آثر طاعة شهوته على طاعة الله ورسوله ، فصدق عليه قوله - تعالى - : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 : 81 ] فراجع تفسير هذه الآية في الجزء الأول من التفسير .

                          ربما يقول قائل : إننا نرى كثيرا من أفراد هذا الصنف مع تلبسهم بهذه الحالة يطمعون في عفو الله ومغفرته ، وذلك دليل الإيمان المنجي . والجواب عن هذا : أن من يصر على معصيته - تعالى - عامدا عالما بنهيه ، ووعيده لا يكون مؤمنا بصدق خبره ، ولا مذعنا لشرعه الذي تنال رحمته ورضاه بالتزامه ، وعذابه وبأسه باعتداء حدوده ، فيكون إذا مستهزئا به ، فالإصرار على العصيان مع عدم استشعار الخوف ، والندم لا يجتمع مع الإيمان الصحيح بعظمة الله وصدقه في وعده ووعيده . وبهذا الذي قررته يكون الخلاف لفظيا لا حقيقيا .

                          أقول : هذا بسط ما قرره في تفسير هذه الآية على الطريقة المشهورة ، وإذا تذكر القارئ طريقتنا في مثل هذه المسألة التي أجازها الأستاذ الإمام - إذ بسطناها في التفسير وفي باب الفتاوى من المنار - فإنه يزداد علما وبينة في هذا المقام . وأعني بهذه الطريقة تأثير الذنوب والخطايا في النفس إلى ألا يبقى للإيمان سلطان عليها ، وسنعيد القول فيه قريبا في تفسير : إنما التوبة على الله إلخ .

                          وله عذاب مهين قال الأستاذ الإمام : أراد الله - تعالى - بالعذاب المهين عذاب الروح بالإهانة ، يعني رحمه الله أن بدن هذا العاصي يعذب في النار من حيث هو حيوان يتألم ، وروحه تتألم بالإهانة من حيث هو إنسان يشعر بمعنى الكرامة والشرف ، فنسأل الله - تعالى - النجاة من العذاب المهين ، والفوز بالنعيم المقيم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية