الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر فقد ذكرناه في سورة البقرة ، والمراد ههنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم ، وعلى تجرع الغصص ، واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب ، لأن الأجر هو المستحق ، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب ، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجرا بحسب الوعد ، لا بحسب الاستحقاق .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب ، وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الجبائي : المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلا ، فهو بغير حساب ، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حسابا ، قال القاضي : هذا ليس بصحيح ، لأن الله تعالى وصف الأجر بأنه بغير حساب ، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق ، والأجر غير التفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الثواب له صفات ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : أنها تكون دائمة الأجر لهم ، وقوله : ( بغير حساب ) معناه بغير نهاية ، لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه ، فما لا نهاية له كان خارجا عن الحساب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنها تكون منافع كاملة في أنفسها ، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب ، قال - صلى الله عليه وسلم - : إن في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه ، وما لا يتوقعه الإنسان ، فقد يقال : إنه ليس في حسابه ، فقوله : ( بغير حساب ) محمول على هذا المعنى ، والوجه الثالث في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال ، روى صاحب " الكشاف " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ينصب الله الموازين يوم القيامة ، فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ، ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صبا ، قال الله تعالى : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثاني : من البيانات التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى : ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) ، قال مقاتل : إن كفار قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك ، يعبدون اللات والعزى ، فأنزل الله " قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له [ ص: 222 ] الدين " ، وأقول : إن التكليف نوعان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : الأمر بتحصيل ما ينبغي ، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة ، إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي ، فقال : ( اتقوا ربكم ) لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ، ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال : ( إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) وهذا يشتمل على قيدين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : الأمر بعبادة الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي ، وشوائب الشرك الخفي ، وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير ، وقوله تعالى : ( وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) لا شبهة في أن المراد أني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها ، وفي هذه الآية فائدتان :

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : كأنه يقول : إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك ، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه ، وأكثرهم مداومة عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثانية : أنه قال : ( إني أمرت أن أعبد الله ) والعبادة لها ركنان : عمل القلب ، وعمل الجوارح ، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح ، فقدم ذكر الجزء الأشرف ، وهو قوله : ( مخلصا له الدين ) ثم ذكر عقيبه الأدون ، وهو عمل الجوارح ، وهو الإسلام ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الإسلام في خبر جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة ، وهو المراد بقوله في هذه الآية : ( وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) وليس لقائل أن يقول : ما الفائدة في تكرير لفظ " أمرت " لأنا نقول : ذكر لفظ " أمرت " أولا في عمل القلب ، وثانيا في عمل الجوارح ، ولا يكون هذا تكريرا .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثالثة في قوله : ( وأمرت لأن أكون أول المسلمين ) التنبيه على كونه رسولا من عند الله واجب الطاعة ، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله ، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ ، ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة ، وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال : ( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) ، وفيه فوائد :

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : أن الله أمر محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يجري هذا الكلام على نفسه ، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي ، لأنه مع جلالة قدره وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفا حذرا عن المعاصي ، فغيره بذلك أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثانية : دلت الآية على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب ، بل الخوف من العقاب ، وهذا يطابق قولنا : إن الله تعالى قد يعفو عن المذنب والكبيرة ، فيكون اللازم عند حصول المعصية هو الخوف من العقاب لا نفس حصول العقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثالثة : دلت هذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب ، وذلك لأنه قال في أول الآية : ( إني أمرت أن أعبد الله ) ثم قال بعده : ( قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره ، وذلك يقتضي أن يكون تارك الأمر عاصيا ، والعاصي يترتب عليه الخوف من العقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 223 ] النوع الثالث : من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله : ( قل الله أعبد مخلصا له ديني ) فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله : ( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ) وقوله : ( قل الله أعبد مخلصا له ديني ) ؟ ، قلنا : هذا ليس بتكرير ، لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة ، والثاني إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحدا غيره ، وذلك لأن قوله : ( أمرت أن أعبد الله ) لا يفيد الحصر ، وقوله تعالى : ( قل الله أعبد ) يفيد الحصر ، يعني : الله أعبد ولا أعبد أحدا سواه ، والدليل عليه أنه لما قال بعد : ( قل الله أعبد ) قال بعده : ( فاعبدوا ما شئتم من دونه ) ولا شبهة في أن قوله : ( فاعبدوا ما شئتم من دونه ) ليس أمرا ، بل المراد منه الزجر ، كأنه يقول : لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى ، فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم ، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله : ( قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ) لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه ، وخسروا أهليهم أيضا ، لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده ألبتة ، وقال ابن عباس : إن لكل رجل منزلا وأهلا وخدما في الجنة ، فإن أطاع أعطي ذلك ، وإن كان من أهل النار حرم ذلك ، فخسر نفسه وأهله ومنزله ، وورثه غيره من المسلمين ، والخاسر المغبون ، ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال : ( ألا ذلك هو الخسران المبين ) كان التكرير لأجل التأكيد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف " ألا " وهو للتنبيه ، وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم ، كأنه قيل : إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم إليها فتنبهوا لها .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن كلمة " هو " في قوله : ( هو الخسران المبين ) تفيد الحصر ، كأنه قيل : كل خسران فإنه يصير في مقابلته كلا خسران .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : وصفه بكونه مبينا يدل على التهويل ، وأقول : قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسرانا مبينا ، فلنبين بحسب المباحث العقلية كونه خسرانا مبينا ، وأقول : نفتقر إلى بيان أمرين : إلى أن يكون خسرانا ، ثم كونه مبينا . أما الأول فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل ، وأعطى المكنة ، وكل ذلك رأس المال ، أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية