الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال صاحب "الكشاف" : قرئ "يا حسرتى " على الأصل و " يا حسرتاي " على الجمع بين العوض والمعوض عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وإن كنت لمن الساخرين ) أي أنه ما كان مكتفيا بذلك التقصير بل كان من المستهزئين بالدين ، قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها ، ومحل "وإن كنت" نصب على الحالة ، كأنه قال : ( فرطت في جنب الله ) وأنا ساخر ، أي فرطت في حال سخريتي .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن أهل العذاب أنهم يذكرونه بعد نزول العذاب عليهم ، قوله : ( أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            النوع الثالث : قوله ( أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ) وحاصل الكلام أن هذا المقصر أتى بثلاثة أشياء ; أولها : الحسرة على التفريط في الطاعة . وثانيها : التعلل بفقد الهداية . وثالثها : بتمني الرجعة ، ثم أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال : التعلل بفقد الهداية باطل ; لأن الهداية كانت حاضرة والأعذار زائلة ، وهو المراد بقوله : ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ) وههنا مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الزجاج : ( بلى ) جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي ; لأن معنى قوله : ( لو أن الله هداني ) أنه ما هداني ، فلا جرم حسن ذكر لفظة "بلى" بعده .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله : القراءة المشهورة واقعة على التذكير في قوله : ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ) لأن النفس تقع على الذكر والأنثى فخوطب بالذكر ، وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على التأنيث ، قال أبو عبيد : لو صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان حجة لا يجوز لأحد تركها ، ولكنه ليس بمسند ; لأن الربيع لم يدرك أم سلمة ، وأما وجه التأنيث فهو أنه ذكر النفس ، ولفظ النفس ورد في القرآن في أكثر الأمر على التأنيث بقوله : ( سولت لي نفسي ) [طه : 96] و ( إن النفس لأمارة بالسوء ) [يوسف : 53] ، ( ياأيتها النفس المطمئنة ) [الفجر : 27] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال القاضي : هذه الآيات دالة على صحة القول بالقدر من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه لا يقال : فلان أسرف على نفسه ، على وجه الذم ، إلا لما يكون من قبله ، وذلك يدل على أن أفعال العباد تحصل من قبلهم لا من قبل الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن طلب الغفران والرجاء في ذلك أو اليأس لا يحسن إلا إذا كان الفعل فعل العبد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : إضافة الإنابة والإسلام إليه من قبل أن يأتيه العذاب ، وذلك لا يكون إلا مع تمكنه من محاولتهما مع نزول العذاب ، ومذهبهم أن الكافر لم يتمكن قط من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله تعالى : ( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) وذلك لا يتم إلا بما هو المختار للاتباع .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : ذمه لهم على أنهم لا يشعرون بما يوجب العذاب ، وذلك لا يصح إلا مع التمكن من الفعل .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : قولهم : ( ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ) ولا يتحسر المرء على أمر سبق منه إلا وكان يصح منه أن يفعله .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : قوله تعالى : ( على ما فرطت في جنب الله ) ومن لا يقدر على الإيمان - كما يقول القوم - ولا يكون الإيمان من فعله لا يكون [ ص: 8 ] مفرطا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : ذمه لهم بأنهم من الساخرين ، وذلك لا يتم إلا أن تكون السخرية فعلهم ، وكان يصح منهم أن لا يفعلوه .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : قوله : ( لو أن الله هداني ) أي مكنني ( لكنت من المتقين ) وعلى هذا قولهم : إذا لم يقدر على التقوى فكيف يصح ذلك منه؟

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : قوله : ( لو أن لي كرة فأكون من المحسنين ) وعلى قولهم : لو رده الله أبدا كرة بعد كرة وليس فيه إلا قدرة الكفر ، لم يصح أن يكون محسنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والحادي عشر : قوله تعالى موبخا لهم : ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ) فبين تعالى أن الحجة عليهم لله لا أن الحجة لهم على الله ، ولو أن الأمر كما قالوا لكان لهم أن يقولوا : قد جاءتنا الآيات ولكنك خلقت فينا التكذيب بها ولم تقدرنا على التصديق بها .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني عشر : أنه تعالى وصفهم بالتكذيب والاستكبار والكفر ، على وجه الذم ، ولو لم تكن هذه الأشياء أفعالا لهم لما صح الكلام ، والجواب عنه أن هذه الوجوه معارضة ، بما أن القرآن مملوء من أن الله تعالى يضل ويمنع ويصدر منه اللين والقسوة والاستدراج ، ولما كان هذا التفسير مملوءا منه لم يكن إلى الإعادة حاجة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية