الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ ابن عامر (تأمرونني) بنونين ساكنة الياء ، وكذلك هي في مصاحف الشام ، قال الواحدي : وهو الأصل ، وقرأ ابن كثير (تأمروني) بنون مشددة على إسكان الأولى وإدغامها في الثانية ، وقرأ نافع (تأمروني) بنون واحدة خفيفة ، على حذف إحدى النونين ، والباقون بنون واحدة مكسورة مشددة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ( أفغير الله ) منصوب بأعبد ، و ( تأمروني ) اعتراض ، ومعناه : أفغير الله أعبد بأمركم؟ وذلك حين قال له المشركون : أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك ، وأقول : نظير هذه الآية ، قوله تعالى : ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض ) [الأنعام : 14] وقد ذكرنا في تلك الآية وجه الحكمة في تقديم الفعل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : إنما وصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقا للأشياء وبكونه مالكا لمقاليد السماوات والأرض ، وظاهر كون هذه الأصنام جمادات أنها لا تضر ولا تنفع ، ومن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات الشريفة المقدسة ، واشتغل بعبادة هذه الأجسام الخسيسة ، فقد بلغ في الجهل مبلغا لا مزيد عليه ، فلهذا السبب قال : ( أيها الجاهلون ) ولا شك أن وصفهم بهذا الأمر لائق بهذا الموضع .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) واعلم أن الكلام التام مع الدلائل القوية والجواب عن الشبهات في مسألة الإحباط قد ذكرناه في سورة البقرة فلا نعيده ، قال صاحب "الكشاف" : قرئ "ليحبطن عملك" على البناء للمفعول وقرئ بالياء والنون ؛ أي : ليحبطن الله ، أو الشرك ، وفي الآية سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟ والجواب : تقدير الآية : أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ، وإلى الذين من قبلك مثله . أو أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت ، كما تقول : كسانا حلة ؛ أي كل واحد منا .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما الفرق بين اللامين؟ الجواب : الأولى موطئة للقسم المحذوف ، والثانية : لام الجواب .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ والجواب : أن قوله : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها ، ألا ترى أن قولك : لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة بمتساويين ، قضية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق ، قال الله تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [الأنبياء : 22] ولم يلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وبأنهما قد فسدتا .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : ما معنى قوله : ( ولتكونن من الخاسرين ) ؟ والجواب : كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من طاعات غيرهم ، فكذلك القبائح التي تصدر عنهم ؛ فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح ؛ لقوله تعالى : ( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) [الإسراء : 75] فكان المعنى ضعف الشرك الحاصل منه ، وبتقدير حصوله منه يكون تأثيره في جانب غضب الله أقوى وأعظم . [ ص: 13 ] واعلم أنه تعالى لما قدم هذه المقدمات ذكر ما هو المقصود فقال : ( بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) ، والمقصود منه ما أمروه به من الإسلام ببعض آلهتهم ، كأنه قال : إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلا غير الله ; لأن قوله ( قل أفغير الله تأمروني أعبد ) يفيد أنهم عينوا عليه عبادة غير الله ، فقال الله : إنهم بئسما قالوا ، ولكن أنت على الضد مما قالوا ، فلا تعبد إلا الله ، وذلك لأن قوله : ( بل الله فاعبد ) يفيد الحصر . ثم قال : ( وكن من الشاكرين ) على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلا عبادة الإله القادر على الإطلاق العليم الحكيم ، وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية