الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في تفسير ألفاظ الآية ، قوله : ( والأرض ) المراد منه الأرضون السبع ، ويدل عليه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قوله : ( جميعا ) فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع ونظيره قوله : ( كل الطعام ) [آل عمران : 93] وقوله تعالى : ( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ) [النور : 31] وقوله تعالى : ( والنخل باسقات ) [ق : 10] وقوله تعالى : ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [العصر : 2 ، 3] فإن هذه الألفاظ الملحة باللفظ المفرد تدل على أن المراد منه الجمع ، فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه قال بعده : ( والسماوات مطويات ) فوجب أن يكون المراد بالأرض الأرضون .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الموضع موضع تعظيم وتفخيم ، فهذا مقتضى المبالغة ، وأما القبضة فهي المرة الواحدة من القبض ، قال تعالى : ( فقبضت قبضة من أثر الرسول ) [طه : 96] والقبضة بالضم المقدار المقبوض بالكف ، ويقال أيضا : أعطني قبضة من كذا ، يريد معنى القبضة تسمية بالمصدر ، والمعنى والأرضون جميعا قبضته أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة من قبضاته ، يعني أن الأرضين مع ما لها من العظمة والبسطة لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته ، أما إذا أريد معنى القبضة فظاهر ; لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة ، فإن قيل : ما وجه قراءة من قرأ (قبضته) بالنصب ؟ قلنا : جعل القبضة ظرفا . وقوله : ( مطويات ) من الطي الذي هو ضد النشر كما قال تعالى : ( يوم نطوي السماء كطي السجل ) [الأنبياء : 104] وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ، ثم قال صاحب الكشاف : وقيل : قبضته ملكه ، ويمينه قدرته ، وقيل : مطويات بيمينه ؛ أي مفنيات بقسمه ؛ لأنه أقسم أن يقبضها .

                                                                                                                                                                                                                                            ولما ذكر هذه الوجوه عاد إلى القول الأول بأنها وجوه ركيكة ، وأن حمل هذا الكلام على محض التمثيل أولى ، وبالغ في تقرير هذا الكلام فأطنب ، وأقول : إن حال هذا الرجل في إقدامه على تحسين طريقته وتقبيح طريقة القدماء عجيب جدا ، فإنه إن كان مذهبه أنه يجوز ترك ظاهر اللفظ والمصير إلى المجاز من غير دليل ، فهذا طعن في القرآن وإخراج له عن أن يكون حجة في شيء ، وإن كان مذهبه أن الأصل في الكلام الحقيقة ، وأنه لا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفك ، فهذه هي الطريقة التي أطبق عليها جمهور المتقدمين ، فأين الكلام الذي يزعم أنه علمه؟ وأين العلم الذي لم يعرفه غيره؟ مع أنه وقع في التأويلات العسر والكلمات الركيكة ، فإن قالوا : المراد أنه لما دل الدليل على أنه ليس المراد من لفظ القبضة واليمين هذه الأعضاء ، وجب علينا أن نكتفي بهذا القدر ولا نشتغل بتعيين المراد ، بل نفوض علمه إلى الله تعالى ، فنقول : هذا هو طريق الموحدين الذين يقولون : إنا نعلم ليس مراد الله من هذه الألفاظ هذه الأعضاء ، فأما تعيين المراد ، فإنا نفوض ذلك العلم إلى الله تعالى ، فهذه هي طريقة السلف المعرضين عن التأويلات ، فثبت أن هذه التأويلات التي أتى بها هذا الرجل ليس تحتها شيء من الفائدة أصلا ، والله أعلم . [ ص: 16 ] واعلم أنه تعالى لما بين عظمته من الوجه الذي تقدم قال : ( سبحانه وتعالى عما يشركون ) يعني أن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول والألباب في وصف عظمته ، تنزه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية ، فإن قيل : السؤال على هذا الكلام من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن العرش أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ، ثم إنه قال في صفة العرش : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [الحاقة : 17] وإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم ، فكيف يجوز تقدير عظمة الله بكونه حاملا للسماوات والأرض؟

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : أن قوله : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) شرح حالة لا تحصل إلا في يوم القيامة ، والقوم ما شاهدوا ذلك ، فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم يكونون معترفين بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء الله تعالى ، فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم ، وإن كان هذا الخطاب مع المكذبين بالنبوة وهم ينكرون قوله : ( والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ) فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية