الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 72 ] باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي اعلم أن هذا الباب مهم جدا فأحببت تقديمه لعموم الحاجة إليه ، وقد صنف في هذا جماعة من أصحابنا منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي ، ثم الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي ثم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح ، وكل منهم ذكر نفائس لم يذكرها الآخران ، وقد طالعت كتب الثلاثة ولخصت منها جملة مختصرة مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم ، وضممت إليها نفائس من متفرقات كلام الأصحاب وبالله التوفيق .

                                      اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر ، كبير الموقع ، كثير الفضل ، لأن المفتي وارث الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ ; ولهذا قالوا : المفتي موقع عن الله تعالى ، وروينا عن ابن المنكدر قال : العالم بين الله تعالى وخلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم . وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرفا تبركا ، وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 73 ] يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، حتى ترجع إلى الأول . وفي رواية : ما منهم من يحدث بحديث ، إلا ود أن أخاه كفاه إياه . ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا .

                                      وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم من أفتى عن كل ما يسأل فهو مجنون . وعن الشعبي والحسن وأبي حصين بفتح الحاء التابعيين قالوا : إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر . وعن عطاء بن السائب التابعي : أدركت أقواما يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد ، وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان : إذا أغفل العالم ( لا أدري ) أصيبت مقاتله . وعن سفيان بن عيينة وسحنون : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما . وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب ، فقيل له ، فقال : حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب . وعن الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول : لا أدري ، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه . وعن الهيثم بن جميل : شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري . وعن مالك أيضا : أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها ، وكان يقول : من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب . وسئل عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة ، فغضب وقال : ليس في العلم شيء خفيف . وقال الشافعي : ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا . وقال أبو حنيفة : لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر . وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة . قال الصيمري والخطيب : قل من حرص على الفتيا ، وسابق إليها ، وثابر عليها ، إلا قل توفيقه ، واضطرب في أموره . وإن كان كارها لذلك ، غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة ، وأحال الأمر فيه على غيره ، كانت المعونة له من الله أكثر ، والصلاح في جوابه أغلب ، واستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها }

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية