الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                بسم الله الرحمن الرحيم كتاب العتق

                                                                                                                1501 حدثنا يحيى بن يحيى قال قلت لمالك حدثك نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق وحدثناه قتيبة بن سعيد ومحمد بن رمح جميعا عن الليث بن سعد ح وحدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير بن حازم ح وحدثنا أبو الربيع وأبو كامل قالا حدثنا حماد حدثنا أيوب ح وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا عبيد الله ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب قال سمعت يحيى بن سعيد ح وحدثني إسحق بن منصور أخبرنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسمعيل بن أمية ح وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة ح وحدثنا محمد بن رافع حدثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب كل هؤلاء عن نافع عن ابن عمر بمعنى حديث مالك عن نافع [ ص: 105 ]

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                [ ص: 105 ] كتاب العتق

                                                                                                                قال أهل اللغة : العتق الحرية . يقال منه : عتق يعتق عتقا بكسر العين وعتقا بفتحها أيضا ، حكاه صاحب المحكم وغيره . وعتاقا وعتاقة فهو عتيق وعاتق أيضا حكاه الجوهري ، وهم عتقاء وأعتقه فهو معتق ، وهم عتقاء ، وأمة عتيق وعتيقة وإماء عتائق ، وحلف بالعتاق أي الإعتاق . قال الأزهري : هو مشتق من قولهم : عتق الفرس إذا سبق ونجا ، وعتق الفرخ طار واستقل ، لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء . قال الأزهري وغيره : وإنما قيل لمن أعتق نسمة إنه أعتق رقبة وفك رقبة فخصت الرقبة دون سائر الأعضاء مع أن العتق يتناول الجميع ، لأن حكم السيد عليه وملكه له كحبل في رقبة العبد وكالغل المانع له من الخروج ، فإذا أعتق فكأنه أطلقت رقبته من ذلك ، والله أعلم .

                                                                                                                قوله : صلى الله عليه وسلم : من أعتق شركا له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد ، قوم عليه قيمة العدل ، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق وفي نسخة ( ما أعتق ) هذا حديث ابن عمر . وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما قال : يضمن ) وفي رواية ( قال : من أعتق شقصا له في عبد ، فخلاصه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه ) وفي رواية : ( إن لم يكن له مال قوم [ ص: 106 ] عليه العبد قيمة عدل ، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه )

                                                                                                                قال القاضي عياض في ذكر الاستسعاء : هنا خلاف بين الرواة قال قال الدارقطني : روى هذا الحديث شعبة وهشام عن قتادة ، وهم أثبت ، فلم يذكرا فيه الاستسعاء ووافقهما همام ففصل الاستسعاء من الحديث ، فجعله من رأي قتادة قال : وعلى هذا أخرجه البخاري وهو الصواب . قال الدارقطني وسمعت أبا بكر النيسابوري يقول : ما أحسن ما رواه همام وضبطه ، ففصل قول قتادة عن الحديث .

                                                                                                                قال القاضي : وقال الأصيلي وابن القصار وغيرهما من أسقط السعاية من الحديث أولى ممن ذكرها لأنها ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر . وقال ابن عبد البر : الذين لم يذكروا السعاية أثبت ممن ذكروها . قال غيره : وقد اختلف فيها عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فتارة ذكرها وتارة لم يذكرها ، فدل على أنها ليست عنده من متن الحديث . كما قال غيره ، هذا آخر كلام القاضي ، والله أعلم .

                                                                                                                قال العلماء ومعنى الاستسعاء في هذا الحديث أن العبد يكلف الاكتساب والطلب حتى يحصل قيمة نصيب الشريك الآخر ، فإذا دفعها إليه عتق . هكذا فسره جمهور القائلين بالاستسعاء وقال بعضهم : هو أن يخدم سيده الذي لم يعتق بقدر ما له فيه من الرق فعلى هذا تتفق الأحاديث .

                                                                                                                وقوله صلى الله عليه وسلم : غير مشقوق عليه أي لا يكلف ما يشق عليه . والشقص بكسر الشين [ ص: 107 ] النصيب قليلا كان أو كثيرا ، ويقال له : الشقيص أيضا . بزيادة الياء ويقال له أيضا الشرك بكسر الشين .

                                                                                                                وفي هذا الحديث أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك قوم عليه باقيه إذا كان موسرا بقيمة عدل سواء كان العبد مسلما أو كافرا ، أو سواء كان الشريك مسلما أو كافرا ، وسواء كان العتيق عبدا أو أمة . ولا خيار للشريك في هذا ولا للعبد ولا للمعتق ، بل ينفذ هذا الحكم وإن كرهه كلهم مراعاة لحق الله تعالى في الحرية . وأجمع العلماء على أن نصيب المعتق يعتق بنفس الإعتاق ، إلا ما حكاه القاضي عن ربيعة أنه قال : لا يعتق نصيب المعتق موسرا كان أو معسرا ، وهذا مذهب باطل مخالف للأحاديث الصحيحة كلها والإجماع .

                                                                                                                وأما نصيب الشريك فاختلفوا في حكمه إذا كان المعتق موسرا على ستة مذاهب :

                                                                                                                أحدها وهو الصحيح في مذهب الشافعي وبه قال ابن شبرمة والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وإسحاق وبعض المالكية ، أنه عتق بنفس الإعتاق ، ويقوم عليه نصيب شريكه بقيمته يوم الإعتاق ، ويكون ولاء جميعه للمعتق ، وحكمه من حين الإعتاق حكم الأحرار في الميراث وغيره وليس للشريك إلا المطالبة بقيمة نصيبه كما لو قتله ، قال هؤلاء : ولو أعسر المعتق بعد ذلك استمر نفوذ العتق وكانت القيمة دينا في ذمته ، ولو مات أخذت من تركته فإن لم تكن له تركة ضاعت القيمة واستمر عتق جميعه قالوا : ولو أعتق الشريك نصيبه بعد إعتاق الأول نصيبه كان إعتاقه لغوا لأنه قد صار كله حرا .

                                                                                                                والمذهب الثاني أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة وهو المشهور من مذهب مالك وبه قال أهل الظاهر وهو قول الشافعي .

                                                                                                                الثالث مذهب أبي حنيفة للشريك الخيار إن شاء استسعى العبد في نصف قيمته ، وإن شاء أعتق نصيبه والولاء بينهما ، وإن شاء قوم نصيبه على شريكه المعتق ثم يرجع المعتق بما دفع إلى شريكه على العبد يستسعيه في ذلك ، والولاء كله للمعتق قال : والعبد في مدة الكتابة بمنزلة المكاتب في كل أحكامه .

                                                                                                                الرابع مذهب عثمان البتي لا شيء على المعتق إلا أن تكون جارية رائعة تراد للوطء فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر .

                                                                                                                الخامس حكاه ابن سيرين أن القيمة في بيت المال .

                                                                                                                السادس محكي عن إسحاق بن راهويه أن هذا الحكم للعبيد دون الإماء ، وهذا القول شاذ مخالف للعلماء كافة والأقوال الثلاثة قبله فاسدة مخالفة لصريح الأحاديث فهي مردودة على قائليها .

                                                                                                                هذا كله فيما إذا كان المعتق لنصيبه موسرا .

                                                                                                                فأما إذا كان معسرا حال الإعتاق ففيه أربعة مذاهب :

                                                                                                                أحدها مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وموافقيهم ، ينفذ العتق في نصيب المعتق فقط ولا يطالب المعتق بشيء ولا يستسعى العبد بل يبقى نصيب الشريك رقيقا كما كان ، وبهذا قال جمهور علماء الحجاز لحديث ابن عمر .

                                                                                                                المذهب الثاني مذهب ابن شبرمة [ ص: 108 ] والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وسائر الكوفيين وإسحاق ، يستسعى العبد في حصة الشريك ، واختلف هؤلاء في رجوع العبد بما أدى في سعايته على معتقه فقال ابن أبي ليلى : يرجع به عليه ، وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يرجع . ثم هو عند أبي حنيفة في مدة السعاية بمنزلة المكاتب وعند الآخرين هو حر بالسراية .

                                                                                                                المذهب الثالث مذهب زفر وبعض البصريين ، أنه يقوم على المعتق ويؤدي القيمة إذا أيسر .

                                                                                                                الرابع حكاه القاضي عن بعض العلماء ، أنه لو كان المعتق معسرا بطل عتقه في نصيبه أيضا فيبقى العبد كله في الحال بغير استسعاء ، هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والعلماء كافة ، وانفرد أبو حنيفة فقال : يستسعى في بقيته لمولاه ، وخالفه أصحابه في ذلك فقالوا بقول الجمهور . وحكى القاضي أنه روي عن طاوس وربيعة وحماد ورواية عن الحسن كقول أبي حنيفة ، وقال أهل الظاهر وعن الشعبي وعبيد الله بن الحسن الغبري ، أن للرجل أن يعتق من عبده ما شاء ، والله أعلم .

                                                                                                                قال القاضي : وقوله في حديث ابن عمر ( وإلا فقد عتق منه ما عتق ) ظاهره أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك رواه مالك وعبيد الله العمري فوصلاه بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وجعلاه منه ورواه أيوب عن نافع فقال : قال نافع : ( وإلا فقد عتق منه ما عتق ) ففصله من الحديث وجعله من قول نافع . وقال أيوب مرة : لا أدري هو من الحديث أم هو شيء قاله نافع ، ولهذه الرواية قال ابن وضاح : ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                قال القاضي : وما قاله مالك وعبيد الله العمري أولى ، وقد جوداه . وهما في نافع أثبت من أيوب عند أهل هذا الشأن ، كيف وقد شك أيوب فيه كما ذكرناه ؟ قال : وقد رواه يحيى بن سعيد عن نافع ، وقال في هذا الموضع : وإلا فقد جاز ما صنع فأتى به على المعنى . قال : وهذا كله يرد قول من قال بالاستسعاء ، والله أعلم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( قيمة عدل ) بفتح العين أي لا زيادة ولا نقص ، والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية