الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( تنبيه ) :

كل شيء أفتى فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه وما لا نقره شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى أن لا نقره شرعا إذا لم يتأكد وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا والفتيا بغير شرع حرام فالفتيا بهذا الحكم حرام وإن كان الإمام المجتهد غير عاص به بل مثابا عليه لأنه بذل جهده على حسب ما أمر به وقد قال النبي عليه السلام { إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران } فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقد مذاهبهم فكل ما وجدوه من هذا النوع يحرم عليهم الفتيا به ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه لكنه قد يقل وقد يكثر غير أنه لا يقدر أن يعلم هذا في مذهبه إلا من عرف القواعد والقياس الجلي والنص الصريح وعدم المعارض لذلك وذلك يعتمد تحصيل أصول الفقه والتبحر [ ص: 110 ] في الفقه فإن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا وذلك هو الباعث لي على وضع هذا الكتاب لأضبط تلك القواعد بحسب طاقتي ولاعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى فتأمل ذلك فهو أمر لازم وكذلك كان السلف رضي الله عنهم متوقفين في الفتيا توقفا شديدا وقال مالك لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلا لذلك ويرى هو نفسه أهلا لذلك يريد تثبت أهليته عند العلماء .

ويكون هو بيقين مطلعا على ما قاله العلماء في حقه من الأهلية لأنه قد يظهر من الإنسان أمر على ضد ما هو عليه فإذا كان مطلعا على ما وصفه به الناس حصل اليقين في ذلك وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكا لأن التحنك وهو اللثام بالعمائم تحت الحنك شعار العلماء حتى إن مالكا سئل عن الصلاة بغير تحنك فقال لا بأس بذلك وهو إشارة إلى تأكد التحنيك وهذا هو شأن الفتيا في الزمن القديم وأما اليوم فقد انخرق هذا السياج وسهل على الناس أمر دينهم فتحدثوا فيه بما يصلح وبما لا يصلح وعسر عليهم اعترافهم بجهلهم وأن يقول أحدهم لا يدري فلا جرم آل الحال للناس إلى هذه الغاية بالاقتداء بالجهال .

الحالة الثالثة أن يصير طالب العلم إلى ما ذكرناه من الشروط مع الديانة الوازعة والعدالة المتمكنة فهذا يجوز له أن يفتي في مذهبه نقلا وتخريجا ويعتمد على ما يقوله في جميع ذلك .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

تنبيهات الأول الاستنباط لغة استخراج الماء من العين من قولهم نبط الماء إذا خرج من منبعه واصطلاحا استخراج المعاني من النصوص بفرط الذهن وقوة القريحة كما في تعريفات الجرجاني قال المحلي على جمع الجوامع أن يستنبط الحكم بأن الجمع المعرف بأل عام مما نقل أن هذا الجمع يصح الاستثناء منه حيث لا حصر فيه أي إخراج بعضه بإلا أو إحدى أخواتها بأن يضم إليه كبرى مأخوذة من قولهم معيارا لعموم الاستثناء وهي كل ما صح الاستثناء منه مما لا حصر فيه فهو عام لينتج مطلوب وهو أن هذا الجمع عام ا هـ بتوضيح للمراد .

وفي حاشيتي الشربيني والعطار على محلي جمع الجوامع الاستنباط استنتاج الأحكام من الأدلة قال الشافعي رضي الله عنه إذا رفعت إلى المجتهد واقعة فليعرضها على نصوص الكتاب فإن أعوزه فعلى الأخبار المتواترة [ ص: 129 ] ثم على الآحاد فإن أعوزه لم يخض في القياس بل يلتفت إلى ظواهر القرآن فإن وجد ظاهرا نظر في المخصصات من قياس أو خبر فإن لم يجد تخصيصا حكم به وإن لم يعثر على لفظ من كتاب ولا سنة نظر إلى المذاهب فإن وجدها مجمعا عليها اتبع الإجماع .

فإن لم يجد إجماعا خاض في القياس ويلاحظ القواعد الكلية أولا ويقدمها على الجزئيات كما في القتل بالمثقل يقدم قاعدة الردع والزجر على مراعاة الآلة فإن عدم قاعدة كلية نظر في النصوص ومواقع الإجماع فإن وجدها في معنى واحد ألحق به وإلا انحدر إلى قياس مخيل فإن أعوزه تمسك بالشبه ولا يعود على طرد إن كان يؤمن بالله ويعرف مأخذ الشرع هذا تدريج النظر على ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى ولقد أخر الإجماع عن الإخبار وذلك تأخير مرتبة لا تأخير عمل إذ الفعل به مقدم لكن الخبر يتقدم في المرتبة عليه فإنه مستند قبول الإجماع قاله الغزالي في المنخول ا هـ .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( التنبيه الثاني ) القياس لغة عبارة عن رد الشيء إلى نظيره وعند أهل الأصول إبانة مثل حكم المذكور بمثل علته في الآخر أي إظهار مثل حكم المذكور في النص بمثل علته في آخر لم ينص عليه لا إثباته لأن القياس غير مثبت للحكم بل مظهر له واحترز بمثل الحكم ومثل العلة عن لزوم القول بانتقال الأوصاف واختيار لفظ المذكور ليشمل القياس بين المعدومين أيضا وأركانه .

أربعة مقيس عليه ومقيس ومعنى مشترك بينهما وحكم المقيس عليه يتعدى بواسطة المشترك إلى المقيس وفي التعبير بالأصل والفرع عن الأولين وهو الأقرب أو عن غيرهما كحكم المقيس عليه أو الأصل دليل حكم المقيس عليه خلاف وينقسم إلى جلي وهو ما تسبق إليه الأفهام وإلى خفي وهو ما يكون بخلافه ويسمى في الأغلب بالاستحسان وإن كان الاستحسان أعم مطلقا منه لأنه قد يطلق على ما ثبت بالنص والإجماع والضرورة كما في تعريفات الجرجاني ومحلي جمع الجوامع ولكل واحد من أركانه الأربعة شروط تطلب من كتب الأصول قال الحطاب في شرح ورقات إمام الحرمين مع المتن .

وينقسم القياس إلى ثلاثة أقسام قياس علة وقياس دلالة وقياس شبه ( فقياس العلة ) ما كانت العلة فيه موجبة للحكم بحيث لا يحسن عقلا تخلف الحكم عنها ولو تخلف عنها لم يلزم منه محال كما هو شأن العلل الشرعية كقياس تحريم ضرب الوالدين على التأفيف بجامع الإيذاء فإنه لا يحسن في العقل إباحة الضرب مع تحريم التأفيف بناء على القول بأن الدلالة فيه على الحكم قياسية والقول الثاني أن الدلالة فيه من دلالة اللفظ على الحكم وقياس الدلالة ما كانت العلة فيه دالة على الحكم غير موجبة له أي ما يكون الحكم فيه لعلة مستنبطة يجوز أن يترتب الحكم عليها في الفرع [ ص: 130 ] ويجوز أن يتخلف وهذا أضعف من الأول وهو غالب أنواع الأقيسة كقياس مال الصبي على مال البالغ في وجوب الزكاة فيه بجامع أنه مال نام ويجوز أن يقال لا يجب في مال الصبي كما قال أبو حنيفة

( وقياس الشبه ) ما كان الفرع فيه مترددا بين أصلين وهو أكثر شبها بأحدهما فيلحق به كالعبد المقتول فإنه متردد في الضمان بين الإنسان الحر من حيث إنه آدمي وبين البهيمة من حيث إنه مال وهو بالمال أكثر شبها من الحر بدليل أنه يباع ويورث ويوقف وتضمن أجزاؤه بما نقص من قيمته فيلحق به وتضمن قيمته وإن زادت على دية الحر وهذا أضعف مما قبله فلا يصار إليه مع إمكان ما قبله ا هـ .

بتصرف قلت والأول هو المراد بالجلي والثاني والثالث هو المراد بالخفي نعم قال الرازي كما في حاشية الجمل على الجلالين إن قوله تعالى في سورة العنكبوت { ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } دال على وجوب الحد في اللواطة لأنها اشتركت مع الزنا في كونها فاحشة وهذا وإن كان قياسا أي من أمثلة قياس الدلالة الظني إلا أن الجامع مستفاد من الآية ا هـ .

أي من النص وكل ما استفيد من النص فهو قطعي الدلالة لا ظنيها فتأمل بإمعان وقد اقتصرت في المقدمة تبعا لابن رشد الحفيد في بدايته على القول بأن دلالة نحو تحريم التأفيف في الآية على تحريم الضرب لفظية لا قياسية وهو الذي اعتمده ابن السبكي في جمع الجوامع فافهم .

قال الأصل ولا يجوز القياس للمقلد ولا لإمامه إلا بعد الفحص المنتهي إلى غاية أنه لا فارق هناك ولا معارض ولا مانع يمنع من القياس ولا يتأتى الفحص المذكور من المقلد إلا بعد إحاطته بمدارك إمامه وأدلته وأقيسته وعلله التي اعتمد عليها مفصلة ومعرفته رتب تلك العلل ونسبتها إلى المصالح الشرعية وهل هي من باب المصالح الضرورية أو الحاجية أو التتمية وهل هي من باب المناسب الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم أو جنسه في جنس الحكم وهل هي من باب المصلحة المرسلة التي هي أدنى رتب المصالح أو من قبيل ما شهدت لها أصول الشرع بالاعتبار أو هي من باب قياس الشبه أو المناسب أو قياس الدلالة أو قياس الإحالة أو المناسب القريب إلى غير ذلك من تفاصيل الأقيسة ورتب العلل في نظر الشرع عند المجتهدين الموضحة في كتب أصول الفقه وذلك لأن نسبة هذا المقلد إلى إمامه في القياس على أصول مذهبه كنسبة إمامه لصاحب الشرع في القياس على مقاصده فكما أن إمامه لا يجوز له أن يقيس مع قيام الفارق لأن الفارق مبطل للقياس والقياس الباطل لا يجوز الاعتماد عليه مثلا لو وجد إمامه صاحب الشرع قد نص على حكم ومصلحة من باب الضروريات حرم عليه أن يقيس عليه ما هو من باب الحاجات أو التتمات لكون هاتين ضعيفتين [ ص: 131 ] ومرجوحتين بالنسبة إلى الأولى ولا يلزم من اعتبار الأقوى اعتبار الأضعف كذلك هذا المقلد لا يجوز له أن يقيس فرعا على فرع نص إمامه عليه مع قيام الفارق بينهما مثلا إمامه أفتى في فرع بني على علة اعتبر فرعها في نوع الحكم لا يجوز له هو أن يقيس على أصل إمامه فرعا مثل ذلك الفرع لكن علته من قبيل ما شهد جنسه لجنس الحكم لقوة النوع ولا يلزم من اعتبار الأقوى اعتبار الأضعف أو وجد إمامه اعتمد على مصلحة من باب الضروريات لا يجوز له هو أن يقيس عليها مثلها لكنها من باب الحاجات أو التتمات إذ لعل إمامه راعى خصوص تلك القوة وذلك لخصوص منتف هنا أو وجد إمامه اعتبر مصلحة سالمة عن المعارض لقاعدة أخرى حرم عليه أن يفتي فيما فيه عن تلك المصلحة لكنها معارضة لقاعدة أخرى أو بقواعد لقيام الفارق .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( التنبيه الثالث ) التخريج في اصطلاح العلماء تعرف أحكام جزئيات موضوع القاعدة من القاعدة المشتملة على تلك الأحكام بالقوة القريبة من الفعل بإبرازها من القوة إلى الفعل بأن تجعل القاعدة نحو الأمر للوجوب حقيقة كبرى قياس من الشكل الأول لصغرى سهلة الحصول لأن محمولها موضوع الكبرى وموضوعها هو الجزئي الذي قصد تعرف حكمه فيقال أقيموا الصلاة أمر والأمر للوجوب حقيقة تنتج أقيموا الصلاة للوجوب حقيقة فلذا عرفوا القاعدة بقضية كلية يتعرف منها أحكام جزئيات موضوعها ، وفي صيغة التفعل إشارة إلى أن تلك المعرفة بالكلفة والمشقة فخرج من التعريف القضية التي تكون فروعها بديهية غير محتاجة إلى التخريج فيكون ذكرها في الفن من قبيل المبادي لمسائل أخر ويقال للإبراز المذكور تفريع كما في العطار والشربيني على محلي جمع الجوامع وأطلق الأصل التخريج على معنى القياس فلذا قال لا يجوز إلا لمن ضبط مدارك إمامه ومستنداته بخلافه بالمعنى الأول فإنه يجوز لمن يتسع اطلاعه بحيث يعلم بتقييد المطلقات وتخصيص العمومات ولو لم يضبط مدارك إمامه ومستنداته .

قال الشيخ محمد عليش في فتاويه فتح العلي المالك في جواب بعض معاصريه لما سئل عن رجلين اشتركا في بهيمة اشترياها والتزم أحدهما للآخر نفقتها ثم بعد انفصال الشركة أراد الملتزم محاسبة شريكه بما أنفقه على حصته في البهيمة المذكورة فهل لا يجاب لذلك بقوله حيث التزم أحد الشريكين الإنفاق فلا رجوع له على شريكه لأن ذلك معروف لازم لمن أوجبه على نفسه عند مالك وأصحابه ما لم يفلس أو يمت كما نص عليه ابن رشد فيما نقله عنه العلامة الحطاب ونص مسألة من التزم الإنفاق على شخص مدة معينة أو مدة حياة المنفق أو المنفق عليه أو حتى يقدم زيد أو إلى أجل مجهول لزمه ذلك ما لم يفلس أو يمت لأنه تقدم في كلام ابن رشد أن المعروف على مذهب [ ص: 132 ] مالك وأصحابه لازم لمن أوجبه على نفسه ما لم يفلس أو يمت ا هـ .

فالمنفق على البهيمة في تلك النازلة لا محاسبة له للمنفق له وهذا هو الحق واتباعه أسلم ما نصه الجواب المذكور صحيح في غاية الحسن والنص الذي فيه هو كذلك في التزامات الحطاب وليس فيه قياس على من التزم الإنفاق على رجل إلخ وإنما فيه تخريج حكم الجزئي من القاعدة التي تشمله وغيره فالمنفي به يستحق أن يشكر عليه ويدعى له بخير والاعتراض عليه من التغيير في الوجوه الحسان سببه فساد التصور والحسد :

وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم كضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسدا وبغضا إنه لدميم

ا هـ .

قلت ومنه تخرجي في رسالتي شمس الإشراق في حكم التعامل بالأوراق حكم الأنواط مما في المدونة قال لي مالك في الفلوس لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكراهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة وقال مالك لا يجوز فلس بفلسين ا هـ كما وضحته في تلك الرسالة وأنه ليس هو من قبيل قياسه على الفلوس النحاس فراجعها إن شئت .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( التنبيه الرابع ) قال الإمام أبو إسحاق في موافقاته ما حاصله إن الاجتهاد على ثلاثة أضرب الأول ما يسمى تنقيح المناط وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى كما جاء في حديث الأعرابي الذي جاء ينتف شعره ويضرب صدره وقد قسمه الغزالي إلى أقسام ذكرها في شفاء العليل وهو مبسوط في كتب الأصول قالوا وهو خارج عن باب القياس ولذلك قال به أبو حنيفة مع إنكاره القياس في الكفارات وإنما هو راجع إلى نوع من تأويل الظواهر .

( الضرب الثاني ) ما يسمى بتخريج المناط وهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط فكأنه أخرجه بالبحث وهو الاجتهاد القياسي وهو معلوم .

( الضرب الثالث ) ما يسمى بتحقق المناط وهو نوعان عام وخاص فتحقيق المناط العام نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما مثلا إذا نظر المجتهد في العدالة ووجد هذا الشخص متصفا بها على حسب ما ظهر له أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المشروطة بالعدول من الشهادات والانتصاب للولايات العامة أو الخاصة وإذا نظر في الأوامر والنواهي الندبية والأمور الإباحية ووجد المكلفين والمخاطبين على الجملة أوقع عليهم أحكام تلك النصوص كما يوقع عليهم نصوص الواجبات والمحرمات من غير التفات إلى شيء غير القبول المشروط بالتهيئة الظاهرة فالمكلفون كلهم في أحكام تلك النصوص على سواء في النظر ، وتحقيق المناط [ ص: 133 ] الخاص نظر في تعيين المناط في حق كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرر من تلك المداخل وهذا بالنسبة إلى التكليف المتحتم وغيره ويختص غير المتحتم بوجه آخر وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر ويكون بريئا في بعض الأعمال دون بعض فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النصوص ومراميها وتفاوت إدراكها وقوة تحملها للتكليف وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها ويصرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة وعدم التفاتها فهذا النوع أعلى وأدق من النوع الأول ومنشؤه في الحقيقة عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } وقد يعبر عنه بالحكمة قال تعالى { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } قال مالك من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم أما سمعت قول الله تعالى { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } .

وقال أيضا إن الحكمة مسحة ملك على قلب العبد وقال الحكمة نور يقذفه الله في قلب العبد وقال أيضا يقع بقلبي أن الحكمة الفقه في دين الله وأمر يدخله الله القلوب من رحمته وفضله وهذا النوع من تحقيق المناط هو الاجتهاد الذي لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة بخلاف النوع الأول من تحقيق المناط وبخلاف تخريج المناط وتنقيح المناط فإنها من أفراد الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا وذلك لأن هذا النوع الخاص من تحقيق المناط كلي في كل زمان عام في جميع الوقائع أو أكثرها فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي أو جميعه وذلك غير صحيح لأنه إن فرض في زمان ارتفعت الشريعة ضربة لازب بخلاف غيره فإن الوقائع المتجددة التي لا عهد بها في الزمان المتقدم قليلة بالنسبة إلى ما تقدم لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدمين فيمكن تقليدهم فيه لأنه معظم الشريعة فلا تتعطل الشريعة بتعطل بعض الجزئيات كما لو فرض العجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات دون السائر فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك فوضح أنهما ليسا سواء انظر الموافقات إن شئت .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( التنبيه الخامس ) الفتوى من المفتي كما تحصل من جهة القول كما مر بيانه وهو الأمر المشهور كذلك تحصل من جهة الفعل والإقرار كما في موافقات أبي إسحاق الشاطبي [ ص: 134 ] قال أما بالفعل فمن وجهين أحدهما ما يقصد به الإفهام في معهود الاستعمال فهو قائم مقام القول المصرح به كقوله عليه السلام { الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بيديه } { وسئل عليه السلام في حجته فقال ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال لا حرج } .

وقال { يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ويكثر الهرج قيل يا رسول الله وما الهرج فقال هكذا بيده فحرفها كأنه يريد القتل } وحديث عائشة في صلاة الكسوف حين أشارت إلى السماء قلت آية فأشارت برأسها أي نعم وحين { سئل عليه السلام عن أوقات الصلوات قال للسائل صل معنا هذين اليومين ثم صلى ثم قال له الوقت ما بين هذين } أو كما قال وهو كثير جدا والثاني ما يقتضيه كونه أسوة يقتدى به ومبعوثا لذلك قصدا وأصله قول الله تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج } الآية وقال قبل ذلك { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } الآية .

وقال في إبراهيم { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } إلى آخر القصة والتأسي إيقاع الفعل على الوجه الذي فعله وشرع من قبلنا شرع لنا { وقال عليه السلام لأم سلمة ألا أخبرته أني أقبل وأنا صائم } وقال { صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم } وحديث ابن عمر وغيره في الاقتداء بأفعاله أشهر من أن يخفى ولذلك جعل الأصوليون أفعاله في بيان الأحكام كأقواله وإذا كان كذلك وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ونائب منابه لزم من ذلك أن أفعاله محل للاقتداء أيضا فما قصد به البيان والإعلام فظاهر وما لم يقصد به ذلك فالحكم فيه كذلك أيضا من وجهين أحدهما أنه وارث وقد كان المورث بقوله وفعله مطلقا فكذلك الوارث وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة والثاني أن التأسي بالأفعال بالنسبة إلى من يعظم في الناس سر مبثوث في طباع البشر لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال لا سيما عند الاعتياد والتكرار وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسي به وإمكان الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا من حيث إنه ليس بمعصوم لما لم تعتبر في الأقوال كان إمكان الخطأ والنسيان والمعصية والكفر من حيث ذلك غير معتبر في الأفعال ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم فلا بد لمن ينتصب للفتوى بفعله وقوله من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة .

وأما الإقرار فراجع إلى الفعل لأن الكف فعل وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب للفتوى وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جاز هنا بلا إشكال ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه [ ص: 135 ]

ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما وهو راجع في الحقيقة إلى إهمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه وبالجملة فمن حقيقة نيل كل منتصب للفتيا بقوله وفعله وإقراره لرتبة الوراثة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ظهور فعله على مصداق قوله هذا بالنسبة لصحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع وإلا فالواجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق طابق قوله فعله أم لا فإن كان موافقا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا أو كان مظنة للحصول لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه .

وإن خالف فعله قوله فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أو لا فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة ومن اقتدى به كان مخالفا مثله فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف فإذا أفتى بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات وهو في فعله على حسب قوله حصل تصديق قوله بفعله وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرض على الدنيا ويخالط من نهاك عن مخالطتهم فلم يصدق القول الفعل فهذا وإن نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله لأنه وارث النبي إلا أنه لا يصح الاقتداء ولا الفتوى على كمالها في الصحة إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق وقد قال أبو الأسود الدؤلي :

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم

وهو معنى موافق للنقل والعقل لا خلاف فيه بين العلماء ا هـ كلام الشاطبي ملخصا والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية