الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون

هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف؛ وفيه سد الذريعة؛ ثم استثنى ما يحسن؛ وهو التثمير؛ والسعي في نمائه؛ قال مجاهد : التي هي أحسن: التجارة فيه؛ ممن كان من الناظرين له مال يعيش به؛ فالأحسن - إذا ثمر مال يتيم - ألا يأخذ منه نفقة؛ ولا أجرة ولا غيرها؛ من كان من الناظرين لا مال له؛ ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره؛ وإلا دعته الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر؛ فالأحسن أن ينظر؛ ويأكل بالمعروف؛ قاله ابن زيد .

و"الأشد": جمع "شد"؛ وجمع "شدة"؛ وهو هنا الحزم؛ والنظر في الأمور؛ وحسن التصرف فيها.

[ ص: 493 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وليس هذا بالأشد المقرون ببلوغ الأربعين؛ بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير؛ وتلك الأشد هي التجارب؛ والعقل المحنك؛ ولكن قد خلطهما المفسرون؛ وقال ربيعة؛ والشعبي ؛ ومالك - فيما روي عنه -؛ وأبو حنيفة : بلوغ الأشد: البلوغ مع ألا يثبت سفه؛ وقال السدي : الأشد: ثلاثون سنة؛ وقالت فرقة: ثلاثة وثلاثون سنة؛ وحكى الزجاج عن فرقة: ثمانية عشرة سنة؛ وضعفه؛ ورجح البلوغ مع الرشد؛ وحكى النقاش أن الأشد هنا: من خمس عشرة؛ إلى ثلاثين؛ والفقه ما رجح الزجاج ؛ وهو قول مالك - رحمه الله -: الرشد؛ وزوال السفه؛ مع البلوغ.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا أصح الأقوال؛ وأليقها بهذا الموضع.

وقوله تعالى وأوفوا الكيل والميزان ؛ الآية؛ أمر بالاعتدال في الأخذ؛ والإعطاء؛ و"القسط": العدل؛ وقوله - سبحانه -: لا نكلف نفسا إلا وسعها ؛ يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر؛ من التحفظ؛ والتحرز؛ لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه؛ قال الطبري : لما كان الذي يعطي ناقصا يتكلف في ذلك مشقة؛ والذي يعطي زائدا يتكلف أيضا مثل ذلك؛ رفع الله - عز وجل - الأمر بالمعادلة؛ حتى لا يتكلف واحد منهما مشقة.

وقوله تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ؛ يتضمن الشهادات؛ والأحكام؛ والتوسط بين الناس؛ وغير ذلك؛ أي: ولو كان ميل الحق على قراباتكم.

وقوله تعالى وبعهد الله ؛ يحتمل أن يراد جميع ما عهده الله تعالى إلى عباده؛ ويحتمل أن يراد به جميع ذلك؛ مع جميع ما انعقد بين إنسانين؛ ويضاف إلى ذلك العهد إلى الله تعالى ؛ من حيث قد أمر تعالى بحفظه والوفاء به؛ وقوله تعالى "لعلكم"؛ ترج؛ بحسبنا.

وقرأ ابن كثير ؛ وأبو عمرو : "تذكرون"؛ بتشديد الذال؛ والكاف؛ جميعا؛ وكذلك "يذكرون"؛ و"يذكر الإنسان"؛ وما جرى من ذلك مشددا كله؛ وقرأ نافع ؛ وعاصم ؛ في رواية أبي بكر - رضي الله عنه -؛ وابن عامر ؛ كل ذلك بالتشديد؛ إلا قوله تعالى "أولا يذكر الإنسان"؛ [ ص: 494 ] فإنهم خففوها؛ وروى أبان؛ وحفص عن عاصم : "تذكرون"؛ خفيفة الذال؛ في كل القرآن؛ وقرأ حمزة والكسائي : "تذكرون"؛ بتخفيف الذال؛ إذا كان الفعل بالتاء؛ وإذا كان بالياء قرأه بالتشديد؛ وقرأ حمزة وحده؛ في سورة "الفرقان": "لمن أراد أن يذكر"؛ بسكون الذال؛ وتخفيف الكاف؛ وقرأ ذلك الكسائي ؛ بتشديدهما؛ وفتحهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية