الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم إنه تعالى بين حال هؤلاء المتكبرين بقوله : الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله روى ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال : " كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف ، وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمر ، وحيي بن أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التابوت كلهم من اليهود ، يأتون رجالا من الأنصار ينتصحون لهم فيقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون ، فأنزل الله تعالى : الذين يبخلون ـ إلى قوله : وكان الله بهم عليما وروى ابن حميد وغيره عن قتادة أنه قال في الآية : " هم أعداء الله أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " ، وبناء على هاتين الروايتين [ ص: 80 ] جعل المفسر ( الجلال ) الآية كلاما مستأنفا في اليهود ، فجعل : الذين يبخلون ، مبتدأ خبره محذوف تقديره : لهم وعيد شديد ، والظاهر أنه بدل من قوله تعالى : من كان مختالا أو صفة على القول بوقوع الموصول موصوفا وعليه الزجاج ، وقيل : إنه منصوب أو مرفوع على الذم ، وأقرب منه ، ومن قول الجلال أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، والبخل بضم فسكون ، وبه قرأ الجمهور ، وبالتحريك : وبه قرأ حمزة والكسائي وقرئ بضمتين وبفتح وسكون وهما لغتان أيضا .

                          الأستاذ الإمام قال المفسر : يبخلون بما آتاهم الله من العلم والمال وهم اليهود ، وهما قولان : فمن خص البخل بالبخل بالعلم جعل الكلام في اليهود ، ومن قال : هو البخل بالمال لم يجعله في اليهود ، فالمفسر جمع بين القولين وخص الكلام باليهود ، واضطر لأجل ذلك إلى قطع الكلام وجعل الذين مبتدأ خبره محذوف ، وإن لم يوجد في الكلام ما يدل عليه ، ولمن يحمل الكلام على اليهود مندوحة عن هذا القطع إلى أهون منه ، وهو القطع من ابتداء قوله تعالى : إن الله لا يحب إلخ ، ومن العجيب أن مثل ابن جرير الطبري حمل الكلام على اليهود كأنه تعالى بعد تلك الأوامر بالإحسان ختم الكلام بقوله : إن الله لا يحب اليهود ، وما هذا بأقرب إلى البلاغة من القطع الأول ، وأعجب من قول ابن جرير تعليله إياه بأنه لا يوجد في الناس أمة تأمر الناس بالبخل على أنه دين ، فتعين أن يكون المراد بالبخل البخل بغير المال ، وكأن ابن جرير لم يخبر الناس ، فإن من طبيعة البخيل الأمر بالبخل بحاله ومقاله ليسهل على نفسه خلقه الذميم ويجد له فيه أقرانا وأمثالا ، وذكر الأستاذ أن من الناس من أمروه بالبخل مرارا ، وأن أمرهم كان يؤثر في نفسه أحيانا حتى إنه ربما رد يده بالدراهم إلى جيبه بعد إخراجها إذا كان للبخيل المنفر شبهة قوية كقوله : إن هذا غير مستحق فإعطاؤه إضاعة ، وإذا وضع ما يراد إعطاؤه إياه في موضع كذا يكون خيرا وأولى ، وأقول : إن هذا وقع لي أيضا حتى في هذا الأسبوع الذي أكتب فيه وأنا في القسطنطينية ، وليس لدي الآن تفسير ابن جرير فأراجع عبارته فإني أرى العجب العجاب فيما نقله عنه الأستاذ هو مخالفته للرواية التي نقلتها عنه آنفا عن بعض التفاسير في سبب النزول وهي مروية عنه ، وعن ابن إسحاق ، وابن المنذر ، والذم على الأمر بالبخل لا يتوقف على الأمر به باسم الدين فليراجعه من شاء وليتذكر القارئ ما نبهنا عليه من قبل في سبب النزول وهو أنهم يذكرون فيه الحوادث التي اقترنت بزمن نزول الآية إذا كانت تناسبها ، وإن لم تكن الآية نزلت في الحادثة التي ذكروها خاصة بأن تكون نزلت في سياق هي متممة له ، وإن الراوي رأى أنها تتناول تلك الحادثة ، أو ظن أنها نزلت فيها خاصة ، وقد يكون مخطئا في اجتهاده لمنافاة ذلك لأسلوب القرآن البليغ ، ولنعد إلى سياق الأستاذ الإمام في الآية قال ما مثاله

                          [ ص: 81 ] المتعين في السياق أن قوله تعالى : إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا تعليل لما قبله ، وأن قوله : الذين يبخلون إلخ ، وصف لمن كان مختالا فخورا أو بدل منه ، ولم يذكر ما يبخلون به فيخصه بالمال ؛ لأن الإحسان بالوالدين ، وذوي القربى وما عطف عليهم في الآية ، لم يكن مرادا به الإحسان بالمال فقط كما علم مما تقدم بل منه الإحسان بالقول والمعاملة ، فالمراد بالبخل : البخل بذلك الإحسان المأمور به ، فهو أعم من البخل بالمال فيشمل البخل بلين الكلام وإلقاء السلام والنصح في التعليم ، وبالنفس لإنقاذ المشرف على التهلكة ، وكذلك كتمان ما آتاهم الله من فضله يشمل كتمان المال وكتمان العلم ، وجيء به بعد الأول لتوبيخ أهله ، وبيان أنهم لا حق لهم فيه ، ويجوز أن يخص البخل بإمساك المال ، ويجعل الكتمان عاما شاملا لما عداه من أنواع الإحسان ، فالكلام في الإحسان ، والمقصرون فيه إنما يقصرون بعلة الخيلاء والفخر ، اللذين هما مظهر الترفع والكبر ، فهو يبين لنا أن من كان ملوث النفس بتلك الرذيلة لا يكون محسنا ؛ لأن الكبر يستلزم جحود الحق ، ولا سيما إذا ظهرت آثاره بالقول والعمل ، وجحود الحق يستلزم منعه ، ومنعه هو البخل ، فبين أن الملوثين بذلك الخلق الذي يبغض الله صاحبه ولا يحبه ـ وهو الكبر البين أثره ـ يبخلون بما أمروا به من الإحسان ويأمرون الناس بالبخل ، إما بلسان المقال ، وإما بلسان الحال بأن يكونوا قدوة سيئة في ذلك ويكتمون نعم الله تعالى عليهم بإنكارها وعدم الشكر عليها بالإنفاق منها ولذلك توعدهم بقوله : وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ، أي : وهيأنا لهم بكبرهم وكفرهم ، وبخلهم وعدم شكرهم ، عذابا ذا إهانة يجمع لهم فيه بين الألم والمهانة والذلة جزاء كبرهم ، وقال : للكافرين ولم يقل : ( لهم ) للإيذان بأن هذه الأخلاق والأعمال إنما تكون من الكفور ، لا من المؤمن الشكور .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية