الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في سوق الجنة

                                                                                                          2549 حدثنا محمد بن إسمعيل حدثنا هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة فقال أبو هريرة أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد أفيها سوق قال نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم من دني على كثبان المسك والكافور وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا قال أبو هريرة قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا قال نعم قال هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر قلنا لا قال كذلك لا تمارون في رؤية ربكم ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم قلت كذا وكذا فيذكر ببعض غدراته في الدنيا فيقول يا رب أفلم تغفر لي فيقول بلى فسعة مغفرتي بلغت بك منزلتك هذه فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ويقول ربنا تبارك وتعالى قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا قال فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل إليه ما هو أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا لقد جئت وإن بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقد روى سويد بن عمرو عن الأوزاعي شيئا من هذا الحديث

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( حدثنا محمد بن إسماعيل ) هو الإمام البخاري ( أخبرنا هشام بن عمار ) بن نصير السلمي الدمشقي الخطيب صدوق مقرئ كبر فصار يتلقن فحديثه القديم أصح ، من كبار العاشرة قاله في التقريب . وقال في تهذيب التهذيب في ترجمته : روى عن عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين وغيره ، وروى عنه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، وروى الترمذي عن البخاري عنه ( أخبرنا عبد الحميد بن حبيب ابن أبي العشرين ) الدمشقي أبو سعيد كاتب الأوزاعي ولم يرو عن غيره صدوق ربما أخطأ قال أبو حاتم : كان كاتب ديوان ولم يكن صاحب حديث ، من التاسعة .

                                                                                                          [ ص: 220 ] قوله : ( فقال سعيد أفيها ) أي في الجنة ( سوق ) يعني : وهي موضوعة للحاجة إلى التجارة ( أخبرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ) قال القاري : بالفتح في أصل السيد وغيره وفي نسخة يعني من المشكاة بالكسر على الحكاية أي الخبر هو قوله إن أو للتقدير قائلا إن ( أهل الجنة إذا دخلوها ) أي الجنة ( نزلوا فيها ) أي في منازلها ودرجاتها ( بفضل أعمالهم ) أي بقدر زيادة طاعاتهم لهم كمية وكيفية ( ثم يؤذن ) أي لأهل الجنة ( في مقدار يوم الجمعة ) أي في مقدار الأسبوع . والظاهر أن المراد يوم الجمعة فإنه ورد الأحاديث في فضائل يوم الجمعة أنه يكون في الجنة يوم جمعة كما كان في الدنيا ويحضرون ربهم إلى آخر الحديث كذا في اللمعات وقال القاري : أي قدر إتيانه والمراد في مقدار الأسبوع ، انتهى ( فيزورون ربهم ) أي ( ويبرز ) من الإبراز ويظهر ربهم ( ويتبدى لهم ) بتشديد الدال أي يظهر ويتجلى ربهم لهم ( فتوضع لهم منابر ) أي كراسي مرتفعة ( ومنابر من زبرجد ) بفتح زاي وموحدة فراء ساكنة فجيم مفتوحة جوهر معروف ( ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ) أي بحسب مقادير أعمالهم ومراتب أحوالهم ( ويجلس أدناهم ) أي أدونهم منزلة ( وما فيهم دني ) أي والحال أنه ليس في أهل الجنة دون وخسيس قال الطيبي -رحمه الله- : وهو تتميم صونا لما يتوهم من قوله أدناهم الدناءة والمراد به الأدنى في المرتبة ( على كثبان المسك ) بضم الكاف وسكون المثلثة جمع كثيب أي تل من الرمل المستطيل من كثبت الشيء إذا جمعته ( والكافور ) بالجر عطف على المسك ( ما يرون ) بصيغة المجهول من الإراءة والضمير إلى الجالسين على الكثبان أي لا يظنون ولا يتوهمون ( أن أصحاب الكراسي ) أي أصحاب المنابر ( بأفضل منهم مجلسا ) حتى يحزنوا بذلك لقولهم على ما في التنزيل الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، بل إنهم واقفون في مقام الرضا ومتلذذون بحال التسليم بما جرى القضاء ( هل تتمارون ) [ ص: 221 ] تفاعل من المرية بمعنى الشك أي هل تشكون ( من رؤية الشمس ) وفي بعض النسخ في رؤية الشمس أي في رؤيتكم الشمس ( والقمر ) أي وفي رؤية القمر ( ليلة البدر ) واحترز عن الهلال وعن القمر في غير ليالي البدر فإنه لم يكن حينئذ في نهاية النور ( قلنا لا ) أي لا نشك في رؤية الشمس والقمر ( إلا حاضره الله محاضرة ) قال التوربشتي -رحمه الله- : الكلمتان بالحاء المهملة والضاد المعجمة والمراد من ذلك كشف الحجاب والمقاولة مع العبد من غير حجاب ولا ترجمان ، ومنه الحديث : ما منكم من أحد إلا ويكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان الحديث . والمعنى خاطبه الله مخاطبة وحاوره محاورة ( يا فلان ) بالفتح والضم ( بن فلان ) بنصب ابن وصرف فلان وهما كنايتان عن اسمه واسم أبيه . وروى أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء مرفوعا : إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم ( أتذكر يوم قلت كذا وكذا ) أي مما لا يجوز في الشرع فكأنه يتوقف الرجل فيه ويتأمل فيما ارتكبه من معاصيه ( فيذكره ) بتشديد الكاف أي فيعلمه الله ( ببعض غدراته ) بفتح الغين المعجمة والدال المهملة . جمع غدرة بالسكون بمعنى الغدر وهو ترك الوفاء والمراد معاصيه لأنه لم يف بتركها الذي عهد الله إليه في الدنيا ( أفلم تغفر لي ) أي أدخلتني الجنة فلم تغفر لي ما صدر لي من المعصية ( فيقول بلى ) أي غفرت لك فبسعة مغفرتي بفتح السين ويكسر ( بلغت ) أي وصلت ( منزلتك هذه ) قال الطيبي : عطف على مقدر أي غفرت لك فبلغت بسعة رحمتي هذه المنزلة الرفيعة ، والتقديم دل على التخصيص أي بلوغك تلك المنزلة كائن بسعة رحمتي لا بعملك ( فبينا ) وفي بعض النسخ فبينما ( هم ) أي على أهل الجنة ( على ذلك ) أي على ما ذكر من المحاضرة والمحاورة ( غشيتهم ) أي غطتهم ( فأمطرت عليهم طيبا ) أي عظيما ( قد حفت ) بتشديد الفاء أي أحاطت ( ما لم تنظر العيون إلى مثله ) قال المظهر : ما موصولة والموصول مع صلته يحتمل أن يكون منصوبا بدلا من الضمير المنصوب المقدر العائد إلى ما في قوله ما أعددت ، ويحتمل أن يكون في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي المعد لكم وقيل : أو هو مبتدأ خبره محذوف أي فيها . وقال الطيبي -رحمه الله- : الوجه أن يكون ما موصوفة بدلا من " سوقا " انتهى ، وفي بعض النسخ فيه ، ( ما لم [ ص: 222 ] تنظر العيون إلى مثله ) وهو ظاهر ( ولم تسمع الآذان ) بمد الهمزة جمع الأذن أي وما لم تسمع بمثله ( ولم يخطر ) بضم الطاء أي وما لم يمر مثله على القلوب ( فيحمل إلينا ) أي إلى قصورنا ( وليس يباع فيها ولا يشترى ) الجملة حال من " ما " في " ما اشتهينا " وهو المحمول والضمير في " يباع " عائد إليه ( وفي ذلك السوق ) هو يذكر ويؤنث فأنثه تارة وذكره أخرى والتأنيث أكثر وأشهر ( يلقى ) أي يرى ( قال ) أي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو هريرة مرفوعا حقيقة أو موقوفا في حكم المرفوع ( فيقبل ) من الإقبال أي فيجيء ويتوجه ( من هو دونه ) أي في الرتبة والمنزلة ( فيروعه ) بضم الراء ( ما يرى ) أي يبصره ( عليه من اللباس ) بيان ما ، قال الطيبي : الضمير المجرور يحتمل أن يرجع إلى " من " فيكون الروع مجازا عن الكراهة مما هو عليه من اللباس ، وأن يرجع إلى الرجل ذي المنزلة . فالروع بمعنى الإعجاب أي يعجبه حسنه فيدخل في روعه ما يتمنى مثل ذلك لنفسه ، ويدل عليه قوله ( فما ينقضي آخر حديثه ) أي ما ألقي في روعه من الحديث وضمير المفعول فيه عائد إلى " من " ( حتى يتخيل عليه ) بصيغة الفاعل . وفي نسخة يعني من المشكاة بالبناء للمفعول أي حتى يتصور له ( ما هو أحسن منه ) أي يظهر عليه أن لباسه أحسن من لباس صاحبه وذلك أي سبب ما ذكر من التخيل ( أنه ) أي الشأن ( أن يحزن ) بفتح الزاي يغتم ( فيها ) أي في الجنة . فحزن هنا لازم من حزن بالكسر لا من باب نصر فإنه متعد غير ملائم للمقام ( فتتلقانا ) من التلقي أي تستقبلنا ( أزواجنا ) أي من نساء الدنيا ومن الحور العين ( ويحق لنا ) قال القاري : بكسر الحاء وتشديد القاف وفي نسخة يعني من المشكاة بضم الحاء ، ففي المصباح . حق الشيء كضرب ونصر إذا ثبت . وفي القاموس حق الشيء وجب ووقع بلا شك ، وحقه أوجبه لازم [ ص: 223 ] ومتعد . فالمعنى يوجبنا ويلزمنا ، ويمكن أن يكون من باب الحذف والإيصال أي يحق لنا ويليق بنا ( أن ننقلب بمثل ما انقلبنا ) أي من الانقلاب بمعنى الانصراف .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث غريب ) قال المنذري في الترغيب بعد ذكر هذا الحديث : رواه الترمذي وابن ماجه كلاهما من رواية عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد . وقال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قال وعبد الحميد هو كاتب الأوزاعي مختلف فيه وبقية رواة الإسناد ثقات ، وقد رواه ابن أبي الدنيا عن هقل بن زياد كاتب الأوزاعي أيضا واسمه محمد ، وقيل عبد الله وهو ثقة ثبت احتج به مسلم وغيره عن الأوزاعي قال : نبئت أن سعيد بن المسيب لقي أبا هريرة ، فذكر الحديث ، انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية