الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا فرغ من الحج وأراد المقام بمكة لم يكلف طواف الوداع ، فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف للوداع وهل يجب طواف الوداع أم لا فيه قولان ( أحدهما ) أنه يجب ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت . } ( والثاني ) لا يجب لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه ، فإن قلنا إنه واجب وجب بتركه الدم لقوله صلى الله عليه وسلم { من ترك نسكا فعليه دم } وإن قلنا : لا يجب لم يجب بتركه دم ، لأنه سنة ، فلا يجب بتركه دم كسائر سنن الحج ، وإن طاف للوداع ثم أقام لم يعتد [ بعد ] بطوافه عن الوداع ، لأنه لا توديع مع المقام ، فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع ، وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زادا لم يعد الطواف ، لأنه لا يصير بذلك مقيما وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكره ( فإن قلنا ) إنه واجب نظرت - فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة - استقر عليه الدم ، فإن عاد وطاف لم يسقط الدم ، لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول ، فإن ذكر وهو على مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم ، لأنه في حكم المقيم ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض " فإن نفرت الحائض ثم طهرت فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عباس الأول { لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت } رواه مسلم . وحديثه الآخر { أمر الناس } إلى آخره رواه البخاري ومسلم . وحديث " من ترك نسكا فعليه دم " سبق بيانه [ ص: 233 ] في هذا الباب مرات .

                                      وعن عائشة رضي الله عنها قالت { لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال : عقرى حلقى إنك لحابستنا ، ثم قال لها : أكنت أفضت يوم النحر ؟ قالت : نعم ، قال فانفري } رواه البخاري ومسلم والوداع بفتح الواو . وتنفر بكسر الفاء .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل ( إحداها ) قال أصحابنا : من فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع ، وهذا لا خلاف فيه ، سواء كان من أهلها أو غريبا ، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع ولا رمل في هذا الطواف ولا اضطباع كما سبق ، وإذا طاف صلى ركعتي الطواف وفي هذا الطواف قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) أنه واجب ( والثاني ) سنة . وحكي طريق آخر أنه سنة قولا واحدا حكاه الرافعي وهو ضعيف غريب . والمذهب أنه واجب . قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما : هذا نصه في الأم والقديم ، والاستحباب هو نصه في الإملاء ، فإن تركه أراق دما ( فإن قلنا ) هو واجب فالدم واجب ( وإن قلنا ) سنة فالدم سنة ، ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع إن قلنا هو واجب والله أعلم .



                                      ( الثانية ) إذا خرج بلا وداع وقلنا : يجب طواف الوداع عصى ولزمه العود للطواف ما لم يبلغ مسافة القصر من مكة ، فإن بلغها لم يجب العود بعد ذلك ومتى لم يعد لزمه الدم ، فإن عاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم ، وإن عاد بعد بلوغها فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع الجمهور : لا يسقط .

                                      ( والثاني ) حكاه الخراسانيون وجهان ( أصحهما ) لا يسقط [ ص: 234 ] والثاني ) يسقط ( الثالثة ) ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع ولا دم عليها لتركه ، لأنها ليست مخاطبة به للحديث السابق ، لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام وتدعو مما سنذكره إن شاء الله تعالى .

                                      ولو طهرت الحائض والنفساء فإن كان قبل مفارقة بناء مكة لزمها طواف الوداع لزوال عذرها ، وإن كان بعد مسافة القصر لم يلزمها العود بلا خلاف . وإن كان بعد مفارقة مكة وقبل مسافة القصر ، فقد نص الشافعي أنه لا يلزمها ، ونص أن المقصر بترك الطواف يلزمه العود . وللأصحاب طريقان ( المذهب ) الفرق كما نص عليه ، وبه قطع المصنف والجمهور ، لأنه مقصر بخلاف الحائض .

                                      ( والطريق الثاني ) حكاه الخراسانيون فيهما قولان ( أحدهما ) يلزمها ( والثاني ) لا يلزمهما ( فإن قلنا ) لا يجب العود فهل الاعتبار في المسافة بنفس مكة أم بالحرم ؟ فيه طريقان ( المذهب ) وبه قطع المصنف والجمهور بنفس مكة ( والثاني ) حكاه جماعة من الخراسانيين فيه وجهان ( أصحهما ) . هذا ( والثاني ) الحرم وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها ، وإن نفرت في يوم طهرها لزمها طواف الوداع ، قال القاضي أبو الطيب في تعليقه والدارمي : إذا رأت المرأة الدم فتركت طواف الوداع وانصرفت ، ثم اتصل الدم وجاوز خمسة عشر ، فهي مستحاضة فينظر هل هي مميزة أم معتادة أم مبتدأة ؟ وأي مرد ردت إليه إن كان تركها الطواف في حال حيضها فلا شيء عليها ، وإن كان في حال طهرها لزمها الدم . والله تعالى أعلم .

                                      ( الرابعة ) ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال ويعقبه الخروج بلا مكث ، فإن مكث نظر إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة صديق أو عيادة مريض لزمه [ ص: 235 ] إعادة الطواف ، وإن اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل ونحوهما فهل يحتاج إلى إعادته ؟ فيه طريقان قطع الجمهور بأنه لا يحتاج . وذكر إمام الحرمين فيه وجهين . ولو أقيمت الصلاة فصلاها معهم لم يعد الطواف ، نص عليه الشافعي في الإملاء واتفق عليه الأصحاب . والله أعلم .

                                      ( الخامسة ) حكم طواف الوداع حكم سائر أنواع الطواف في الأركان والشروط . وفيه وجه لأبي يعقوب الأبيوردي أنه يصح بلا طهارة ، وتجبر الطهارة بالدم ، وقد سبق بيان الوجه في فصل طواف القدوم ، وهو غلط ظاهر والله تعالى أعلم



                                      ( السادسة ) هل طواف الوداع من جملة المناسك أم عبادة مستقلة فيه خلاف . قال إمام الحرمين والغزالي : هو من المناسك ، وليس على الحاج والمعتمر طواف وداع إذا خرج من مكة لخروجه . وقال البغوي والمتولي وغيرهما : ليس طواف الوداع من المناسك ، بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر ، سواء كان مكيا أو أفقيا . وهذا الثاني أصح عند الرافعي وغيره من المحققين تعظيما للحرم وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام . قال الرافعي : ولأن الأصحاب اتفقوا على أن المكي إذا حج ونوى على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطواف الوداع . وكذا الأفقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة لا وداع عليه ، ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج . هذا كلام الرافعي ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا } وجه الدلالة أن طواف الوداع يكون عند الرجوع . وسماه قبله قاضيا للمناسك وحقيقته أن يكون قضاها كلها .



                                      [ ص: 236 ] فرع ) ذكرنا في هذه المسألة السادسة عن البغوي أن طواف الوداع يتوجه على كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر . قال : ولو أراد دون مسافة القصر لا وداع عليه ، والصحيح المشهور أنه يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها ، سواء كانت مسافة بعيدة أم قريبة ، لعموم الأحاديث . وممن صرح بهذا صاحب البيان وغيره .

                                      ( فرع ) قد ذكرنا أنه لا يجوز أن ينفر من منى ويترك طواف الوداع إذا قلنا بوجوبه ، فلو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه . واقتصر على طواف الوداع السابق فهل يجزئه ؟ قال صاحب البيان : اختلف أصحابنا المتأخرون فيه ، فقال الشريف العثماني : يجزئه لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت ، وهذا قد أرادها . ومنهم من قال : لا يجزئه ، وهو ظاهر كلام الشافعي وظاهر الحديث ، لأن الشافعي قال : وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله . هذا كلام صاحب البيان ، وهذا الثاني هو الصحيح ، وهو مقتضى كلام الأصحاب . والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال صاحب البيان : قال الشيخ أبو نصر في المعتمد : ليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا . وقال سفيان الثوري : يلزم الدم . دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم { أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ، ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم بوداع } والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم ثم أراد أن يعود إليه وقلنا : دخول الحرم يوجب الإحرام . قال الدارمي : يلزم الإحرام لأنه دخول جديد قال : ولو رجع لطواف الوداع من دون مسافة القصر لم يلزمه الإحرام والله أعلم .

                                      [ ص: 237 ] فرع ) إن قلنا طواف الوداع واجب فترك طوفة من السبع ورجع إلى بلده لم يحصل الوداع ، فيلزمه الدم بكماله . وقال الدارمي : يكون كتارك كل الطواف إلا في الدم ، فإنه على الأقوال إلا ثلاث فدم ، يعني أنه إذا ترك طوفة ففيها الأقوال ( أحدها ) يلزمه ثلث دم ( والثاني ) درهم ( وأصحها ) مد . وفي طوفتين الأقوال أيضا . وفي ثلاث طوفات دم كامل . هذا كلام الدارمي وهو ضعيف أو غلط ( والصواب ) أنه لم يحصل طواف الوداع ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة وأراد الحاج النفر بعد قضاء مناسكهم فالأولى للمرأة أن تقيم حتى تطهر فتطوف ، إلا أن يكون عليها ضرر ظاهر في هذا ، فإن أرادت النفر مع الناس قبل طواف الإفاضة جاز وتبقى محرمة حتى تعود إلى مكة فتطوف متى ما كان ، ولو طال سنين ، وقد سبق في مواضع من هذا الباب بيان هذا . وأما قول الماوردي في الحاوي : ليس لها أن تنفر حتى تطوف بعد أن تطهر فشاذ ضعيف جدا ، والظاهر أنه أراد أنه مكروه نفرها قبل طواف الإفاضة ، وقد سبق أنه يكره تأخيره ولا يكون مراده التحريم . ويصح أن يقال إن المكروه ليس بجائز ، ويفسر الجائز بمستوى الطرفين ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : إذا حاضت الحاجة قبل طواف الإفاضة . ونفر الحجاج بعد قضاء مناسكهم وقبل طهرها ، وأرادت أن تقيم إلى أن تطهر ، وكانت مستأجرة جملا ، لم يلزم الجمال انتظارها ، بل له النفر بجمله مع الناس ، ولها أن تركب في موضعها مثلها ، هذا مذهبنا لا خلاف فيه بين أصحابنا . وممن صرح به الماوردي والشيخ أبو نصر وصاحب البيان وآخرون ، وحكى أصحابنا عن مالك أنه يلزم أن ينتظرها أكثر مدة الحيض وزيادة ثلاثة أيام .

                                      [ ص: 238 ] واستدل أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار } وهو حديث حسن من رواية أبي سعيد الخدري ، وبالقياس على ما لو مرضت فإنه لا يلزمه انتظارها بالإجماع والله أعلم .

                                      قال القاضي عياض المالكي : موضع الخلاف بين الشافعي ومالك في هذه المسألة إذا كان الطريق آمنا ومعها محرم لها ، فإن لم يكن آمنا أو لم يكن محرم لم ينتظرها بالاتفاق ، لأنه لا يمكنه السير بها وحده . قال ولا يحبس لها الرفقة إلا أن يكون كاليوم واليومين ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية