الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        وأما صفتها فما ذكره بقوله ( الجماعة سنة مؤكدة ) أي قوية تشبه الواجب في القوة والراجح عند أهل المذهب الوجوب ونقله في البدائع عن عامة مشايخنا ، وذكر هو وغيره أن القائل منهم أنها سنة مؤكدة ليس مخالفا في الحقيقة بل في العبارة ; لأن السنة المؤكدة والواجب سواء خصوصا ما كان من شعائر الإسلام ، ودليله من السنة المواظبة من غير ترك مع النكير على تاركها بغير عذر في أحاديث كثيرة ، وفي المجتبى والظاهر أنهم أرادوا بالتأكيد الوجوب لاستدلالهم بالأخبار الواردة بالوعيد الشديد بترك الجماعة وصرح في المحيط بأنه لا يرخص لأحد في تركها بغير عذر حتى لو تركها أهل مصر يؤمرون بها فإن ائتمروا وإلا يحل مقاتلتهم ، وفي القنية وغيرها بأنه يجب التعزير على تاركها بغير عذر ويأثم الجيران بالسكوت ، وفيها لو انتظر الإقامة لدخول المسجد فهو مسيء ، وفي المجتبى ومن سمع النداء كره له الاشتغال بالعمل ، وعن عائشة أنه حرام يعني حالة الأذان ، وإن عمل بعده قبل الصلاة فلا بأس به ، وعن محمد لا بأس بالإسراع إلى الجمعة والجماعة ما لم يجهد نفسه والسكينة أفضل فيها ا هـ .

                                                                                        وفي الخلاصة يجوز التعزير بأخذ المال ومن ذلك رجل لا يحضر الجماعة . ا هـ . وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله أن معناه حبس ماله عنه مدة ثم دفعه له لا أخذه على وجه التملك كما قد يتوهم كما صرح به في البزازية ، وذكر في غاية البيان معزيا إلى الأجناس أن تارك الجماعة يستوجب إساءة ولا تقبل شهادته إذا تركها استخفافا بذلك ومجانة ، أما إذا تركها سهوا أو تركها بتأويل بأن يكون الإمام من أهل [ ص: 366 ] الأهواء أو مخالفا لمذهب المقتدي لا يراعي مذهبه فلا يستوجب الإساءة وتقبل شهادته ا هـ .

                                                                                        وفي شرح النقاية عن نجم الأئمة رجل يشتغل بتكرار الفقه ليلا ونهارا ولا يحضر الجماعة لا يعذر ولا تقبل شهادته ، وقال أيضا رجل يشتغل بتكرار اللغة فتفوته الجماعة لا يعذر بخلاف تكرار الفقه قيل جوابه الأول فيمن واظب على ترك الجماعة تهاونا والثاني فيمن لا يواظب على تركها ا هـ .

                                                                                        ولم يذكر المصنف بقية أحكامها فمنها أن أقلها اثنان واحد مع الإمام في غير الجمعة ; لأنها مأخوذة من الاجتماع وهما أقل ما يتحقق بهما الاجتماع ولقوله عليه الصلاة والسلام { الاثنان فما فوقهما جماعة } وهو ضعيف كما في شرح منية المصلي وسواء كان ذلك الواحد رجلا أو امرأة حرا أو عبدا أو صبيا يعقل ولا عبرة بغير العاقل

                                                                                        وفي السراج الوهاج لو حلف لا يصلي بجماعة وأم صبيا يعقل حنث في يمينه ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون في المسجد أو بيته حتى لو صلى في بيته بزوجته أو جاريته أو ولده فقد أتى بفضيلة الجماعة ، ومنها أنها واجبة للصلوات الخمس إلا للجمعة فإنها شرط فيها وتجب لصلاة العيدين على القول بوجوبها ، وتسن فيها على القول بسنيتها ، وفي الكسوف والتراويح سنة وسيأتي أن الصحيح أنها في التراويح سنة على الكفاية ونص في جوامع الفقه على أنها فيها واجبة وهو غريب ويستحب في الوتر في رمضان على قول ولا يستحب فيه على قول وهي مكروهة في صلاة الخسوف وقيل لا ، وأما ما عدا هذه الجملة ففي الخلاصة الاقتداء في الوتر خارج رمضان يكره ، وذكر القدوري أنه لا يكره وأصل هذا أن التطوع بالجماعة إذا كان على سبيل التداعي يكره في الأصل للصدر الشهيد أما إذا صلوا بجماعة بغير أذان وإقامة في ناحية المسجد لا يكره ، وقال شمس الأئمة الحلواني إن كان سوى الإمام ثلاثة لا يكره بالاتفاق ، وفي الأربع اختلف المشايخ والأصح أنه يكره ا هـ .

                                                                                        كذا في شرح المنية ولا يخفى أن الجماعة في العيدين وإن كانت واجبة أو سنة على القولين فيها فهي شرط الصحة على كل قول ; لأن شرائط العيدين وجوبا وصحة شرائط الجمعة إلا الخطبة فلا تصح صلاة العيدين منفردا كالجمعة ولا يلزم من بطلان الوصف بطلان الأصل على المذهب ، ومنها حكم تكرارها في مسجد واحد ففي المجمع ولا [ ص: 367 ] نكررها في مسجد محلة بأذان ثان ، وفي المجتبى ويكره تكرارها في مسجد بأذان وإقامة ، وعن أبي يوسف إنما يكره تكرارها بقوم كثير أما إذا صلى واحد بواحد واثنين فلا بأس به ، وعنه لا بأس به مطلقا إذا صلى في غير مقام الإمام

                                                                                        وعن محمد إنما يكره تكرارها على سبيل التداعي أما إذا كان خفية في زاوية المسجد لا بأس به ، وقال القدوري لا بأس بها في مسجد في قارعة الطريق ، وفي أمالي قاضي خان مسجد ليس له إمام ولا مؤذن ويصلي الناس فيه فوجا فوجا فالأفضل أن يصلي كل فريق بأذان وإقامة على حدة ، ولو صلى بعض أهل المسجد بأذان وإقامة مخافتة ثم ظهر بقيتهم فلهم أن يصلوا جماعة على وجه الإعلان ا هـ .

                                                                                        ومنها أنها لا تجب إلا على الرجال البالغين الأحرار القادرين عليها من غير حرج فلا تجب على شيخ كبير لا يقدر على المشي ومريض وزمن وأعمى ، ولو وجد من يقوده ويحمله عند أبي حنيفة لما عرف أنه لا عبرة بقدرة الغير وحقق في فتح القدير أنه اتفاق والخلاف في الجمعة لا الجماعة وتسقط بعذر البرد الشديد والظلمة الشديدة ، وذكر في السراج الوهاج أن منها المطر والريح في الليلة المظلمة ، وأما في النهار فليست الريح عذرا وكذا إذا كان يدافع الأخبثين أو أحدهما أو كان إذا خرج يخاف أن يحبسه غريمه في الدين أو كان يخاف الظلمة أو يريد سفرا وأقيمت الصلاة فيخشى أن تفوته القافلة أو يكون قائما بمريض أو يخاف ضياع ماله وكذا إذا حضر العشاء وأقيمت صلاة العشاء ونفسه تتوق إليه وكذا إذا حضر الطعام في غير وقت العشاء ونفسه تتوق إليه ا هـ .

                                                                                        وفي فتح القدير وإذا فاتته لا يجب عليه الطلب في المساجد بلا خلاف بين أصحابنا بل إن أتى مسجدا للجماعة آخر فحسن ، وإن صلى في مسجد حيه منفردا فحسن ، وذكر القدوري يجمع بأهله ويصلي بهم يعني وينال ثواب الجماعة ، وقال شمس الأئمة الأولى في زماننا تتبعها وسئل الحلواني عمن يجمع بأهله أحيانا هل ينال ثواب الجماعة أو لا قال لا ويكون بدعة ومكروها بلا عذر .

                                                                                        واختلف في الأفضل من جماعة مسجد حيه وجماعة المسجد الجامع وإذا كان مسجدان يختار أقدمهما فإن استويا فالأقرب فإن صلوا في الأقرب وسمع إقامة غيره فإن كان دخل فيه لا يخرج وإلا فيذهب إليه وهذا على الإطلاق تفريع على أفضلية الأقرب مطلقا لا على من فضل الجامع فلو كان الرجل متفقها فمجلس أستاذه لدرسه أو مجلس العامة أفضل بالاتفاق ا هـ .

                                                                                        وأما حكمة مشروعيتها فقد ذكر في ذلك وجوه : أحدها قيام نظام الألفة بين المصلين ولهذه الحكمة شرعت المساجد في المحال لتحصيل التعاهد باللقاء في أوقات الصلوات بين الجيران ، ثانيها دفع حصر النفس أن تشتغل بهذه العبادة وحدها ، ثالثها تعلم الجاهل من العالم أفعال الصلاة ، وذكر بعضهم أنها ثابتة بالكتاب وهو قوله تعالى { واركعوا مع الراكعين } فهي بالكتاب والسنة .

                                                                                        وأما فضائلها ففي السنة الصحيحة أن { صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد ببضع وعشرين درجة } ، وفي المضمرات أنه مكتوب في التوراة صفة أمة محمد وجماعتهم وأنه بكل رجل في صفوفهم تزاد في صلاتهم صلاة تعني إذا كانوا ألف رجل يكتب لكل رجل ألف صلاة .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله وذكر هو وغيره إلخ ) قال في النهر وفي المفيد الجماعة واجبة وسنة لوجوبها بالسنة وهذا معنى قول بعضهم تسميتها واجبة وسنة مؤكدة سواء ، إلا أن هذا يقتضي الاتفاق على أن تركها بلا عذر يوجب إثما مع أنه قول العراقيين ، والخراسانيون على أنه يأثم إذا اعتاد الترك كما في القنية ا هـ .

                                                                                        وفي شرح المنية للحلبي والأحكام تدل على الوجوب من أن تاركها من غير عذر يعزر وترد شهادته ويأثم الجيران بالسكوت عنه وهذه كلها أحكام الواجب ، وقد يوفق بأن ترتيب الوعيد في الحديث وهذه الأحكام مما يستدل به على الوجوب مقيد بالمداومة على الترك كما هو ظاهر قوله عليه السلام { لا يشهدون الصلاة } وفي الحديث الآخر { يصلون في بيوتهم } كما يعطيه ظاهر إسناد المضارع ، نحو بنو فلان يأكلون البر أي عادتهم فيكون الواجب الحضور أحيانا والسنة المؤكدة التي تقرب منه المواظبة عليها وحينئذ فلا منافاة بين ما تقدم وبين قوله عليه السلام { صلاة الرجل في الجماعة تفضل على صلاته في بيته أو سوقه سبعا وعشرين ضعفا } ا هـ .

                                                                                        ( قوله إذا تركها استخفافا ) أي تهاونا وتكاسلا وليس المراد حقيقة الاستخفاف الذي هو الاحتقار فإنه كفر [ ص: 366 ] ( قوله حتى لو صلى في بيته بزوجته إلخ ) سيأتي خلافه عن الحلواني من أنه لا ينال الثواب ويكون بدعة ومكروها لكن قال في القنية اختلف العلماء في إقامتها في البيت والأصح أنها كإقامتها في المسجد إلا في الفضلية وهو ظاهر مذهب الشافعي رحمه الله تعالى . ا هـ .

                                                                                        قلت ويظهر لي أن ما سيأتي عن الحلواني مبني على ما مر عنه في الأذان من وجوب الإجابة بالقدم وتقدم أن الظاهر خلافه فلذا صححوا خلاف ما قاله هنا أيضا .

                                                                                        ( قوله الاقتداء في الوتر خارج رمضان يكره ) قال الرملي سيأتي الكلام عليه في الحاشية عند قوله ويوتر بجماعة في رمضان فقط وإن الكراهة كراهة تنزيه ( قوله أما إذا صلوا بجماعة إلخ ) لا محل لهذه الجملة هنا ، وإنما محلها فيما بعد عند ذكر حكم تكرارها ( قوله ومنها حكم تكرارها في مسجد واحد إلخ ) قال قاضي خان في شرح الجامع الصغير رجل دخل مسجدا قد صلى فيه أهله فإنه يصلي بغير أذان وإقامة لأن في تكرار الجماعة تقليلها ، وقال الشافعي لا بأس بذلك لأن أداء الصلاة بالجماعة حق المسلمين والآخرون فيها كالأولين والصحيح ما قلنا وهكذا روي عن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم إذا فاتتهم الجماعة صلوا وحدانا وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال إنما يكره تكرار الجماعة إذا كثر القوم أما إذا صلوا وحدانا في ناحية المسجد لا يكره وهذا إذا كان صلى فيه أهله

                                                                                        فإن صلى فيه قوم من الغرباء بالجماعة فلأهل المسجد أن يصلوا بعدهم بجماعة بأذان وإقامة لأن إقامة الجماعة في هذا المسجد حقهم ، ولهذا كان لهم نصب المؤذن وغير ذلك فلا يبطل حقهم بإقامة غيرهم وهذا إذا لم يكن المسجد على قارعة الطريق ، فإن كان كذلك فلا بأس بتكرار الجماعة فيه بأذان وإقامة لأنه ليس له أهل معلوم فكانت حرمته أخف ، ولهذا لا يقام فيه باعتكاف الواجب فكان بمنزلة الرباط في المفاوز وهناك تعاد مرة بعد أخرى فهذا كذلك ا هـ .

                                                                                        بحروفه ومثله في الحقائق وقدمنا نحوه في الأذان عن الكافي والمفتاح وذكر مثله المؤلف عن السراج ، أقول : ومفاد هذه النقول كراهة التكرار مطلقا أي ولو بدون أذان وإقامة وأن معنى قول قاضي خان المار يصلي بغير أذان وإقامة أنه يصلي منفردا لا بالجماعة بدليل التعليل والاستدلال بالمروي عن الصحابة ، ويؤيده قوله في الظهيرية

                                                                                        وظاهر الرواية أنهم يصلون وحدانا ا هـ وحينئذ يشكل ما نقله الرملي عن رسالة العلامة السندي عن الملتقط وشرح المجمع وشرح درر البحار والعباب من أنه يجوز تكرار الجماعة بلا أذان ولا إقامة ثانية اتفاقا . قال وفي بعضها إجماعا ثم ذكر أن ما يفعله أهل الحرمين مكروه اتفاقا وأنه نقل عن بعض مشايخنا إنكاره صريحا حين حضر الموسم بمكة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة منهم الشريف الغزنوي وأنه أفتى الإمام أبو قاسم الجان المالكي سنة خمسين وخمسمائة بمنع الصلاة بأئمة متعددة وجماعات مترتبة وعدم جوازها على مذهب العلماء الأربعة ، ورد على من قال بخلافه [ ص: 367 ] ونقل إنكار ذلك عن جماعة من الحنفية والشافعية والمالكية حضروا الموسم سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ا هـ .

                                                                                        ( قوله وتسقط بعذر البرد الشديد إلخ ) أقول : قد أوصلها في متن التنوير وشرحه الدر المختار إلى عشرين ، وقد نظمتها بقولي

                                                                                        خذ عد أعذارا لترك جماعة عشرين نظما قد أتى مثل الدرر     مرض وإقعاد عمى وزمانة
                                                                                        مطر وطين ثم برد قد أضر     قطع لرجل مع يد أو دونها
                                                                                        فلج وعجز الشيخ قصد للسفر     خوف على مال كذا من ظالم
                                                                                        أو دائن وشهي أكل قد حضر     والريح ليلا ظلمة تمريض ذي
                                                                                        ألم مدافعة لبول أو قذر     ثم اشتغال لا بغير الفقه في
                                                                                        بعض من الأوقات عذر معتبر

                                                                                        .




                                                                                        الخدمات العلمية