الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا ظهر طريق الدخول عليهم فلنرسم في الأحوال العارضة في مخالطة السلاطين ومباشرة أموالهم مسائل .

مسألة .

إذا بعث إليك السلطان مالا لتفرقه على الفقراء فإن كان له مالك معين ، فلا يحل أخذه وإن لم يكن بل كان حكمه أنه يجب التصدق به على المساكين كما سبق فلك أن تأخذه وتتولى التفرقة ولا تعصي بأخذه ، ولكن من العلماء من امتنع عنه فعند هذا ينظر في الأولى فنقول .

الأولى : أن تأخذه إن أمنت ثلاث غوائل .

التالي السابق


(وإذا ظهر طريق الدخول عليهم فلترسم في الأحوال العارضة في مخالطة السلاطين ومباشرة أموالهم مسائل ) ، منها; (مسألة إذا بعث إليك السلطان مالا) وأذن لك أن (تفرقه على الفقراء) ، فلينظر فيه، (إن كان له مالك معين، فلا يحل أخذه) ولو جاء من يد غيره، (وإن لم يكن) له مالك معين، (بل كان حكمه أن يجب التصدق به على المساكين كما سبق بيانه) آنفا (فلك أن تأخذ) ذلك، (وتتولى تفرقته) عليهم، (ولا تعصي بأخذه، ولكن من العلماء من امتنع من ذلك) تورعا، (فعند هذا ينظر في الأولى، فنقول: الأولى أن تأخذه إن أمنت) على نفسك (ثلاث غوائل) أي: مهالك; (الغائلة الأولى أن يظن السلطان بسبب أخذك) له، (أن ماله طيب لولا أنه طيب لما كنت تمد يدك إليه) ، وتأخذه ولا كنت (تدخله في ضمانك، فإن كان الأمر كذلك فلا [ ص: 146 ] تأخذه) أصلا، (فإن ذلك محظور) أي: ممنوع، وفي نسخة: محذور، (ولا يفي الخير في مباشرتك التفرقة بما يحصل لك الجراءة على كسب الحرام. الغائلة الثانية: أن ينظر إليك غيرك من العلماء والجهال فيعتقدون) بأخذك (أنه حلال) ، ولولا ذلك ما أخذته، (فيقتدون بك في الأخذ ويستدلون به على جوازه، ثم لا يفرقون، فهذا أعظم من الأول) وسراية خبثه أكثر، (فإن جماعة) من العلماء (يستدلون بأخذ الشافعي ) رحمه الله تعالى الألف دينار من هارون الرشيد (على جواز الأخذ) مطلقا، (ويغفلون عن تفرقته و) عن (أخذه على نية التفرقة) على الفقراء، (فالمقتدى والمتشبه به ينبغي أن يحترز من هذا غاية الاحتراز، فإنه يكون فعله) ذلك (سبب ضلال خلق كثير) ، وقد اتفق مثل ذلك لكثير من الورعين ممن لم يعتد الأخذ منهم، فكان إذا أخذ منهم تارة فرقه في الحال على الحاضرين، (وقد حكى وهب بن منبه) اليماني تقدمت ترجمته، (أن رجلا أتى به إلى ملك) من الملوك الجبابرة (بمشهد من الناس) أي: محضر منهم، وقد (أكرهه على) أكل (لحم الخنزير فلم يأكل، فقدم إليه لحم غنم وأكرهه بالسيف، فلم يأكل) أيضا، (فقيل له في ذلك، فقال: إن الناس قد اعتقدوا أني طولبت بأكل لحم الخنزير فإذا خرجت سالما، وقد أكلت فلا يعلمون ماذا أكلت فيضلون) بسببي، فهكذا ينبغي بمن يقتدى به أن لا يقدم على أخذ شيء منهم، ولو علم أنه حلال، وأنه يستحقه لئلا يعتقد فيه من لا يعرف أصل المال ولا استحقاقه جوازا لأخذ مطلقا. وقد أخرج هذه القصة أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا أبي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن سهل بن عسكر ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: أتي برجل من أفضل زمانه إلى ملك وكان يفتن الناس على أكل لحوم الخنزير، فلما أتي به استعظم الناس مكانه وهالهم أمره، وقال له صاحب شرط الملك: ائتني بجدي تذبحه مما يحل لك أكله فأعطنيه، فإن الملك إذا دعا بلحم الخنزير أتيتك به، فكله، فذبح جديا فأعطاه إياه ثم أتي به إلى الملك، فدعا لهم بلحم الخنزير، فأتى صاحب الشرط باللحم الذي كان أعطاه إياه لحم الجدي، فأمر الملك أن يأكله، فأبى، فجعل صاحب الشرط يغمز إليه، ويأمره بأكله، ويريه أنه اللحم الذي دفعه إليه، فأبى أن يأكله، فأمر الملك صاحب شرطه أن يقتله، فلما ذهب به قال له: ما منعك أن تأكل وهو اللحم الذي دفعت إلي أظننت أني أتيتك بغيره؟ قال: قد علمت أنه هو، ولكن خفت أن يقتاس الناس بي، فكلما أريد أحد على أكل لحم الخنزير قال: أكله فلان، فيقتاس الناس بي فأكون فتنة لهم، فقتل .

(ودخل وهب بن منبه وطاووس ) رحمهما الله تعالى (على محمد بن يوسف) الثقفي (أخي الحجاج) بن يوسف، (وكان عاملا) على اليمن من طرف الوليد بن عبد الملك ، مات سنة إحدى وتسعين، (وكان في غداة باردة، فقال) محمد (لغلامه: هلم ذلك الطيلسان فألقه على عبد الرحمن أي: طاوس ) فإنه كان يكنى كذلك بأكبر أولاده عبد الرحمن ، (وكان) طاوس (قد قعد على الكرسي فألقى) الغلام (عليه) ذلك الطيلسان، (فلم يزل) طاوس (يحرك كتفيه حتى ألقى الطيلسان عنه) وقام (فغضب محمد بن يوسف ) لذلك، فلما خرجا، (قال وهب : كنت غنيا عن أن تغضبه لو أخذت الطيلسان فتصدقت به) على من يستحقه، (فقال: نعم لولا أن يقول من بعده) ، وفي نسخة: من بعدي (أخذه طاوس فلا يصنع به ما أصنع به، إذا لفعلت) كذلك المقتدى به قد يمتنع من شيء وهو جائز خوفا من أن يقلد من غير معرفة لأصل الامتناع .

وأورده أبو نعيم في الحلية فقال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرني قال: كان طاوس يصلي في غداة باردة مغمية، فمر به محمد بن يوسف أخو الحجاج بن يوسف ، أو أيوب بن يحيى ، وهو ساجد في موكبه، فأمر بساج أو طيلسان مرتفع فطرح عليه، فلم يرفع رأسه حتى فرغ من حاجته، فلما سلم نظر فإذا الساج عليه قال: فانتفض ولم ينظر إليه ومضى إلى منزله .




الخدمات العلمية