الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 158 ] الباء وهي للإلصاق الحقيقي والمجازي أي إلصاق الفعل بالمفعول ، وهو تعليق الشيء بالشيء واتصاله به ، وقال عبد القاهر : قولهم : الباء للإلصاق إن حمل على ظاهره أدى إلى الاستحالة لأنها تجيء بمعنى الإلصاق نفسه كقولنا : ألصقت به ، وحينئذ فلا بد من تأويل كلامهم ، والوجه فيه أن يكون غرضهم أن يقولوا للمتعلم : انظر إلى قولك : ألصقته بكذا ، وتأمل الملابسة التي بين الملصق والملصق به تعلم أن الباء أينما كانت الملابسة التي تحصل بها شبيهة بهذه الملابسة التي تراها في قولك : ألصقته به . انتهى .

                                                      وتجيء للاستعانة ، نحو ضربت بالسيف ، وكتبت بالقلم . وبمعنى المصاحبة ، كاشتريت الفرس بسرجه ، وجاء زيد بسلاحه . وبمعنى الظرف ، نحو جلست بالسوق . وتكون لتعدية الفعل ، نحو مررت بزيد . قال القرطبي ويمكن أن يقال : إن هذه المواضع كلها راجعة إلى الملابسة فيشترك في معنى كلي ، وهو أولى دفعا للاشتراك . قال : وأظن أن ابن جني أشار إلى هذا ، وقيل : إنها حيث دخلت على الآلة فهي للإلصاق . واختلفوا في كيفية الإلصاق فقيل : تفيد التعميم فيه فعلى هذا لا إجمال [ ص: 159 ] في قوله تعالى : { وامسحوا برءوسكم } بل تفيد تعميم مسح جميع الرأس وقيل : إنما تفيد إلصاق الفعل ببعض المفعول ، وعلى هذا فهي مجملة ; لأنه لا يعلم أن مسح أي بعض من الرأس واجب . وقيل : تقتضي الإلصاق بالفعل مطلقا ولا تقتضي بظاهره تعميما ولا تبعيضا ، وصححه صاحب " المصادر " ، ثم قال : والأولى أن يقال : إن دخلت على فعل متعد بنفسه أفادت التبعيض ; لأن الإلصاق الذي هو التعدي مفهوم من دونها فيجب أن يكون لدخولها فائدة وإن لم يكن متعديا بنفسه فإن فائدته الإلصاق والتعدية . اختيار صاحب " المحصول " و " المنهاج " وغيرهما أعني أنها إذا دخلت على فعل متعد بنفسه اقتضت التبعيض ، ونسب ذلك بعضهم إلى الشافعي أخذا من آية الوضوء ، وهو وهم عليه فإن مدركا آخر كما سبق في الواو . واحتج الإمام بأنا نفرق بالضرورة بين قولنا : مسحت يدي بالمنديل وبالحائط ، وبين قولنا : مسحت المنديل والحائط في أن الأول للتبعيض والثاني للشمول . وأجيب : بأن ذلك أمر آخر يرجع إلى الإفراد والتركيب ، وهو أن مسحت يدي بالمنديل سيق لإفادة ممسوح وممسوح به ، والباء إنما جيء بها لتفيد إلصاق الممسوح به التي هي الآلة بمسح المحل الذي هو اليد . وقوله : مسحت المنديل والحائط إنما سيق إلصاق المسح بالممسوح ، وإذا كان كذلك فكيف يحكم بعود الفرق إلى التبعيض مع أنه لا تبعيض في الكلام ؟

                                                      [ ص: 160 ] وقيل : إن دخلت الباء على آلة المسح نحو مسحت بالحائط وبالمنديل فهي للكل ، وإن دخلت على المحل نحو { وامسحوا برءوسكم } لا يتناول الكل . ووجهه أن الآلة غير مقصودة بل هي واسطة بين الفاعل والمنفعل في وصول أثره إليه ، والمحل هو المقصود في الفعل المتعدي فلا يجب استيعاب الآلة بل يكفي فيها ما يحصل به المقصود . وأنكر ابن جني وصاحب " البسيط " مجيئها للتبعيض ، وقالا : لم يذكره أحد من النحاة . قلت : أثبته جماعة منهم ابن مالك ، وقال : ذكره الفارسي في " التذكرة " ونقل عن الكوفيين وتبعهم فيه الأصمعي والعتبي . انتهى ، وكذا ابن مخلد في " شرح الجمل " ومثله بقوله : مسحت بالحائط ، وتيممت بالتراب ، واستحسنه العبدري في " شرح الإيضاح " قال : ووجهه عندي أن الباء الدالة على الآلة لا يلزم فيها أن يلابس الفعل جميعها ، ولا يكون العمل بها كلها بل ببعضها . والحق : أن التبعيض الأول بالقرينة لا بالوضع ، وليست الحجة بل هي ليست نصا في الاستيعاب ، فهي مجملة فيكتفى فيه بما يقع عليه الاسم ، ولو شعرة . وقال أبو البقاء : التبعيض لا يستفاد من الباء بل من طريق الاتفاق ، وهو يحصل الغرض من الفعل بتبعيض الآلة بل ظاهر الحقيقة يغطي الجميع .

                                                      ألا تراك : إذا قلت مسحت رأس اليتيم ، فحقيقته إن تم المسح بجميعه ، وإذا [ ص: 161 ] أمر ببعضه صح أن يقال : ببعض رأسه فلو كانت للتبعيض لا يستوي ذكر الكل والبعض وهو خلاف الحقيقة ؟ وقال الماوردي فيما نقله عنه ابن السمعاني : الباء موضوعة لإلصاق الفعل بالمفعول كقولك : مسحت يدي بالمنديل ، وكتبت بالقلم ، وقد يستعمل في التبعيض إذا أمكن حذفها ، كقوله تعالى { وامسحوا برءوسكم } أي بعض رءوسكم قال : وهو حقيقة في قول بعض أصحاب الشافعي مجاز في قول الأكثرين . انتهى .

                                                      وقال الغزالي في المنخول : ظن ظانون أنه للتبعيض مصدر يستقل بدونها كقوله تعالى : { وامسحوا برءوسكم } وتمسكوا بقولهم : أخذت زمام الناقة إذا أخذها من الأرض ، وأخذت بزمامها إذا أخذت طرفه . وليست الباء للتبعيض أصلا ، وهذا خطأ في أخذ الزمام ، ولكن من المصادر ما يقبل الصلات كقولهم : شكرت له ونصحت له ، وأما التبعيض في مسألة المسح مأخوذ من صفة المصدر فمصدر المسح لا يصير إلى الاستيعاب كمصدر الضرب بخلاف الغسل . انتهى . قيل : ومما يقطع النزاع في كونها ليست للتبعيض أنها لو كانت كذلك لامتناع دخولها على بعض للتكرار والتأكيد فيما دخلته بكل للتناقض ، فكان يمتنع أن يقال : مسحت ببعض رأسي ; لأنه بمنزلة بعض بعض رأسي ، ولا أن تقول : مسحت برأسي كله ; لأن الباء للتبعيض ، وكل لتأكيد الجمع ، وجمعهما على شيء واحد تناقض .

                                                      [ ص: 162 ] تنبيه جعلوها للتبعيض في آية الوضوء ، ولم يجعلوها للتبعيض في آية التيمم في قوله تعالى { فامسحوا بوجوهكم } وفرقوا بأن مسح الوجه في التيمم بدل ، وللبدل حكم المبدل ، فقيل لهم : إن أردتم أن حكمه حكم الأصل في الإجزاء فتحكم ولا يفيدكم في الفرق ، وإن أردتم أن صورة البدل لصورة أصله فغير صحيح ، فإن التيمم بدل عن الوضوء وهو في عضوين والوضوء في أربعة ، وبأن مسح الخف بدل عن غسل الرجلين ، ولا يجب في ذلك الاستيعاب . أجابوا عن ذلك بأن ذلك يفسد الخف ولأن مبناه على التخفيف حتى جاز مع القدرة على غسل الرجل بخلاف التيمم . نكتتان في الباء يغلط المصنفون فيها : الأولى أنهم يدخلونها مع فعل الإبدال على المتروك فيقولون : لو أبدلت ضادا بطاء . والصواب : العكس فإذا قلت أبدلت دينارا بدرهم فمعناه اعتضت دينارا عوض درهم ، فالدينار هو الحاصل لك المعوض والدرهم هو الخارج عنك المعوض به ، وهذا عكس ما فهمه الناس ، وعلى ما ذكرنا جاء كلام العرب . قال الشاعر :

                                                      تضحك مني أخت ذي النحيين أبدله الله بلون لونين     سواد وجه وبياض عينين



                                                      [ ص: 163 ] ألا ترى كيف أدخل الباء على المعوض منه وهو قوله : بلون ، ونصب لونين وهو المعوض ؟ وقال : تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } و { بدلناهم بجنتيهم جنتين } { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } أي : يستبدل بكم قوما غيركم ، وقال تعالى : { عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها } فحذف بها أي : بالجنة التي طيف بها . وقال : { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا } أي : يبدلهما به . وقد حذف حرف الجر لدلالة فعل الإبدال على العوض والمعوض كقوله تعالى : { يبدل الله سيئاتهم حسنات } أي بسيئاتهم . وهذا ذكره الشيخ أثير الدين في جموع التكسير من شرح التسهيل " . وكتب الشيخ تاج الدين التبريزي على الحاشية قال تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } ولا شك أن الجنة عوض لا معوض . وعلى هذا يتخرج كلام المصنفين حيث أدخلوا الباء على المأخوذ ، وإن لم يكن في الآية فعل الإبدال لكن الأكثر هو الأول والثاني فصحيح عربي . قلت : الدعوة مع فعل الإبدال ، وفي جريان ذلك في كل ما دل على معاوضة نظر ، فإنه لم يطرد فيه ، فقد جاء { اشتروا الضلالة بالهدى } فقد دخلت على المتروك وجاء عكسه وهو قوله تعالى { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } وحينئذ فلا يحسن رد التبريزي بالآية .

                                                      [ ص: 164 ] ويمكن أن يقال في هذه الآية : إن الضمير في " يقاتل " عائد على المسلمين والذين يشترون مفعول ، وفيه نظر . وكان المعنى في دخول الباء على كل منهما مع الشراء أن " اشتريت " و " بعت " كل منهما مستعمل بمعنى الآخر لكن الأكثر في " بعت " الإخراج عن الملك ، وفي " اشتريت " الإدخال . الثانية إدخالهم الباء مع فعل الاختصاص على المختص ، والصواب : إدخالها على المختص به ; لأن التخصيص إفراد بعض الشيء عما لا يشاركه فيه بالجملة فإذا قلت : اختص زيد بالمال . فمعناه أن زيدا منفرد عن غيره بالمال فهو المختص بمعنى اسم الفاعل ، والمال مختص به . والمختص أبدا هو المنفرد المحتوي أبدا على الشيء فهو كالظرف له ، والمختص به أبدا هو المأخوذ كالمظروف . فلو قلت : اختص المال بزيد تريد ما أردته بالمثال السابق لم يصح ; لأنك في المثال الأول حصرت المال في زيد ، وفي الثاني حصرت زيدا في المال ، فلا يكون له صفة غير الاحتواء على المال ، وهو غير المراد فإن زيدا قد يكون له صفات من دين وعلم وغيرهما . وبهذا يظهر حسن عبارة التسهيل : " وخص الجر بالاسم " على عبارة الخلاصة : " والاسم قد خصص بالجر " .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية