الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما طال الأمر على موسى أوحى الله إليه يأمره بالمسير ببني إسرائيل وأن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب ويدفنه بالأرض المقدسة ، فسأل موسى عنه فلم يعرفه إلا امرأة عجوز فأرته مكانه في النيل ، فاستخرجه موسى ، وهو في صندوق مرمر ، فأخذه معه فسار ، وأمر بني إسرائيل أن يستعيروا من حلي القبط ما أمكنهم ، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئا كثيرا .

وخرج موسى ببني إسرائيل ليلا والقبط لا يعلمون ، وكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وهارون على مقدمتهم ، وكان بنو إسرائيل لما ساروا من مصر ستمائة ألف وعشرين ألفا وتبعهم فرعون ، وعلى مقدمته هامان ، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون يا موسى ! أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ، أما الأول فكانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا ، وأما الآن فيدركنا فرعون فيقتلنا . قال موسى : كلا إن معي ربي سيهدين .

وبلغ بنو إسرائيل إلى البحر وبقي بين أيديهم وفرعون من ورائهم ، فأيقنوا بالهلاك ، فتقدم موسى فضرب البحر بعصاه فانفلق ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، وصار فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق ، فقال كل سبط : قد هلك أصحابنا . فأمر الله الماء فصار كالشباك ، فكان كل سبط يرى من عن يمينه وعن شماله حتى خرجوا ، ودنا فرعون وأصحابه من البحر فرأى الماء على هيئته والطرق فيه ، فقال [ ص: 164 ] لأصحابه : ألا ترون البحر قد فرق مني وانفتح لي حتى أدرك أعدائي ؟ فلما وقف فرعون على أفواه الطرق لم تقتحمه خيله ، فنزل جبرائيل على فرس أنثى وديق ، فشمت الحصن ريحها فاقتحمت في أثرها حتى إذا هم أولهم أن يخرج ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم ، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم .

وانفرد جبرائيل بفرعون يأخذ من حمأة البحر فيجعلها في فيه ، وقال حين أدركه الغرق : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، وغرق ، فبعث الله إليه ميكائيل يعيره ، فقال له : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين . وقال جبرائيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو رأيتني وأنا أدس من حمأة البحر في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها .

فلما نجا بنو إسرائيل قالوا : إن فرعون لم يغرق . فدعا موسى فأخرج الله فرعون غريقا ، فأخذه بنو إسرائيل يتمثلون به ، ثم ساروا فأتوا على قوم يعبدون الأصنام فقالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون . فتركوا ذلك .

ثم بعث موسى جندين عظيمين كل جند اثنا عشر ألفا إلى مدائن فرعون ، وهي يومئذ خالية من أهلها قد أهلك الله عظماءهم ورؤساءهم ، ولم يبق غير النساء ، والصبيان والزمنى ، والمرضى ، والمشايخ ، والعاجزين ، فدخلوا البلاد وغنموا الأموال وحملوا ما أطاقوا وباعوا ما عجزوا عن حمله من غيرهم ، وكان على الجندين يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا .

وكان موسى قد وعده الله وهو بمصر أنه إذا خرج مع بني إسرائيل منها وأهلك الله عدوهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون ، فلما أهلك الله فرعون وأنجى بني [ ص: 165 ] إسرائيل قالوا : يا موسى ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا . فسأل موسى ربه ذلك ، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ويتطهر ويطهر ثيابه ويأتي إلى الجبل - جبل طور سينا - ليكلمه ويعطيه الكتاب ، فصام ثلاثين يوما أولها أول ذي القعدة ، وسار إلى الجبل واستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل ، فلما قصد الجبل أنكر ريح فمه فتسوك بعود خرنوب ، وقيل : تسوك بلحاء شجرة ، فأوحى الله إليه : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ؟ وأمره أن يصوم عشرة أيام أخرى ، فصامها ، وهي عشر ذي الحجة ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة .

ففي تلك الليالي العشر افتتن بنو إسرائيل لأن الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى ، وكان السامري من أهل باجرمى ، وقيل : من بني إسرائيل .

فقال هارون : يا بني إسرائيل إن الغنائم لا تحل لكم ، والحلي الذي استعرتموه من القبط غنيمة ، فاحفروا حفرة وألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيه رأيه ، ففعلوا ذلك ، وجاء السامري بقبضة من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبرائيل ، فألقاه فيه فصار الحلي عجلا جسدا له خوار ، وقيل : إن الحلي ألقي في النار فذاب فألقى السامري ذلك التراب فصار الحلي عجلا جسدا له خوار ، وقيل : كان يخور ، ويمشي ، وقيل : ما خار إلا مرة واحدة ولم يعد ، وقيل : إن السامري صاغ العجل من ذلك الحلي في ثلاثة أيام ، ثم قذف فيه التراب ، فقام له خوار .

فلما رأوه قال لهم السامري : هذا إلهكم وإله موسى فنسي موسى وتركه [ ص: 166 ] ههنا وذهب يطلبه ، فعكفوا عليه يعبدونه ، فقال لهم هارون : ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ، فأطاعه بعضهم وعصاه بعضهم ، فأقام بمن معه ولم يقاتلهم . ولما ناجى الله تعالى موسى قال له : وما أعجلك عن قومك ياموسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك - يا موسى - وأضلهم السامري . فقال موسى : يا ربي هذا السامري قد أمرهم أن يتخذوا العجل ، من نفخ فيه الروح ؟ قال : أنا . قال : فأنت إذا أضللتهم .

ثم إن موسى لما كلمه الله تعالى أحب أن ينظر إليه قال : رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين . وأعطاه الألواح فيها الحلال والحرام والمواعظ ، وعاد موسى ولا يقدر أحد أن ينظر إليه ، وكان يجعل عليه حريرة نحو أربعين يوما ، ثم يكشفها لما تغشاه من النور ، فلما وصل إلى قومه ورأى عبادتهم العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولحيته يجره إليه ، قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي . فترك هارون وأقبل على السامري ، وقال : فما خطبك ياسامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس . ثم أخذ العجل وبرده بالمبارد وأحرقه ، وأمر السامري فبال عليه ، وذراه في البحر .

فلما ألقى موسى الألواح ذهب ستة أسباعها وبقي سبع ، وطلب بنو إسرائيل التوبة [ ص: 167 ] فأبى الله أن يقبل توبتهم وقال لهم موسى : ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ، فاقتتل الذين عبدوه والذين لم يعبدوه ، فكان من قتل من الفريقين شهيدا ، فقتل منهم سبعون ألفا ، وقام موسى ، وهارون يدعوان الله ، فعفا عنهم وأمرهم بالكف عن القتال وتاب عليهم ، وأراد موسى قتل السامري فأمره الله بتركه وقال : إنه سخي ، فلعنه موسى .

ثم إن موسى اختار من قومه سبعين رجلا من أخيارهم ، وقال لهم : انطلقوا معي إلى الله فتوبوا مما صنعتم ، وصوموا ، وتطهروا . وخرج بهم إلى طور سينا للميقات الذي وقته الله له . فقالوا : اطلب أن نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ودخل فيه موسى ، وقال للقوم : ادنوا ، فدنوا حتى دخلوا في الغمام ، فوقعوا سجودا ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ، فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام ، فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعا . فقام موسى يناشد الله تعالى ويدعوه ويقول : يا رب ، اخترت أخيار بني إسرائيل وأعود إليهم وليسوا معي فلا يصدقونني . ولم يزل يتضرع حتى رد الله إليهم أرواحهم فعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون . فقالوا : يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاكه ، فادعه يجعلنا أنبياء . فدعا الله فجعلهم أنبياء .

وقيل : أمر السبعين كان قبل أن يتوب الله على بني إسرائيل ، فلما مضوا للميقات واعتذروا قبل توبتهم وأمرهم أن يقتل بعضهم بعضا ، والله أعلم .

ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل ومعه التوراة أبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأثقال والشدة التي جاء بها ، وأمر الله جبرائيل فقطع جبلا من فلسطين على قدر عسكرهم ، وكان فرسخا في فرسخ ، ورفعه فوق رءوسهم مقدار قامة الرجل مثل الظلة ، [ ص: 168 ] وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر من خلفهم ، فقال لهم موسى : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به ، وإلا رضختم بهذا الجبل وغرقتم في هذا البحر وأحرقتم بهذه النار . فلما رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا ذلك وسجدوا على شق وجوههم وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود ، فصارت سنة في اليهود يسجدون على جانب وجوههم وقالوا : سمعنا وأطعنا .

ولما رجع موسى من المناجاة بقي أربعين يوما لا يراه أحد إلا مات ، وقيل : ما رآه إلا عمي ، فجعل على وجهه ورأسه برنسا لئلا يرى وجهه .

ثم إن رجلا من بني إسرائيل قتل ابن عم له ولم يكن له وارث غيره ليرث ماله وحمله وألقاه بموضع آخر ، ثم أصبح يطلب دمه عند موسى من بعض بني إسرائيل ، فجحدوا فسأل موسى ربه ، فأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فقالوا : أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين المستهزئين . فقالوا له : ما هي ؟ ولو ذبحوا بقرة ما لأجزأت عنهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم ، وإنما كان تشديدهم لأن رجلا منهم كان برا بأمه وكان له بقرة على النعت المذكور فنفعه بره بأمه ، فلم يجدوا على هذه الصفة المذكورة إلا بقرته ، فباعها منهم بملء جلدها ذهبا ، فلما سألوا موسى عنها قال إنها بقرة لا فارض ولا بكر يقول : لا كبيرة ولا صغيرة نصف بين السنين . قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا ، قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها - يعني لا عيب فيها ، وقيل لا بياض فيها - قالوا الآن جئت بالحق . وطلبوها فلم يجدوا إلا بقرة ذلك الرجل البار بأمه ، فاشتروها ، فغال بها حتى أخذ ملء جلدها ذهبا ، فذبحوها وضربوا القتيل بلسانها ، وقيل : بغيره ، فحيي وقام وقال : قتلني فلان . ثم مات .

التالي السابق


الخدمات العلمية