الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 179 ] تفريع

                                                                                                                في الكتاب : إذا توارى الكلب والصيد ثم وجد ميتا فيه أثر كلبه ، أو بازيه ، أو سهمه أكله ، فإن بات لم يأكله ، وإن أنفذت مقاتله أو وجد فيه سهمه ; لأنه قد ينقلب على السهم ، فينفذ مقاتله بغير فعل الصائد . قال اللخمي : إذا غاب الصيد من غير بيات ، فله أربع حالات : يؤكل في حالتين إذا عرفه ، وإن لم يكن معه بازيه ، ولا فيه سهمه أو فيه سهمه ، ومعه بازيه ، أو كلبه . ولا يؤكل في حالين : إذا لم يعرفه ، ولا فيه سهم ، ولا معه جارح ، وبقربه صيد يشككه فيه . قال أبو الطاهر : في إباحته إذا فات ثلاثة أقوال : أحدها : ما تقدم لقول ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما أصميت ، ودع ما أنميت . والإصماء ما حضر موته . والإنماء ما غاب عنه موته ، وثانيها : الإباحة ، وقاله ( ح ) عملا بالغالب ، وثالثها : التفرقة بين السهم فيحل ; لأن أثره لا يختلط بغيره بخلاف الجارح ، وحكى اللخمي قولا بالكراهة ، وفي الكتاب : ولو توارى فرجع ، فوجده ميتا من يومه لم يأكله إذ لعله لو بقي أدرك ذكاته ، وهو مفرط بالرجوع عنه ، ومتى أدرك الصيد لم تنفذ مقاتله وتركه حتى قتله الجارح لم يؤكل ; لأنه صار مقدورا عليه ، وقاله الأئمة ، وكذلك لو اشتغل بإخراج السكين أو انتظار عبده حتى قتله الجارح ، وقاله ( ش ) ، فإن أدركه منفوذ المقاتل يضطرب فحسن أن يفري أوداجه إيحاء للموت . فإن تركه أكل ; لأنه منفوذ المقاتل ، وإن قدر على خلاصه من الجارح لم يؤكل إلا بالذكاة ، وإن غلب أكل إلا أن يقدر على تذكيته في أفواهها ، ولو ذكاه في أفواهها مع قدرته على خلاصه لم يؤكل إذا شك أذكاته قتلته ، أو نهشا ؟ فإن تيقن ذكاته أكل ، [ ص: 180 ] وإن أدركه غير منفوذ المقاتل ، وليس معه ما يذكيه به حتى أنفذت مقاتله لم يؤكل . قال ابن يونس : قال أصبغ : رواية ابن القاسم في الصيد البائت عنه خطأ عن بلاغ ضعيف ، وقد قال مالك : إذا أنفذ السهم مقاتله ثم تردى من جبل أكل . قال ابن القاسم في العتبية : إذا اشتغل بإخراج المدية من حزامه حتى مات أكل ; لأنه غير مفرط بخلاف إخراجها من جرحه ; لأنه ليس موضعها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال محمد : ولو مر به غير صاحبه ، فلم يخلصه من الجارح مع قدرته عليه لم يؤكل وعليه قيمة مجروحا . قال اللخمي : يريد إذا كان معه ما يذكيه ، فإن لم يكن معه أكل ، واختلف في تغريمه القيمة قال : وعدم الغرم أحسن لا سيما إذا كان يجهل أن له ذكاته ، ولو مر بشاة ، فخشي عليها الموت ، ولم يذكها لم يضمنها ; لأنه يخاف عدم التصديق . قال أبو الطاهر : في كتاب محمد لا يغرم المار مطلقا ، وخرج ابن محرز القولين على الخلاف في الترك هل هو فعل فيضمن أم لا ؟ ويخرج على هذه القاعدة : من رأى إنسانا يستهلك بنفسه ، أو بماله ، وهو قادر على خلاصه ، ولم يفعل ، والذي لا يؤدي الشهادة حتى يتلف الحق ، أو يحبس الوثيقة عنده حتى يتلف الحق ، والتارك للمواساة القادر عليها حتى يهلك المحتاج ، والمانع ما يخاط به الجرح حتى يهلك ، والمانع فضل الماء حتى يهلك الزرع ، والمانع [ ص: 181 ] ما يقام به حائط حتى يقع ، والمقطع لوثيقة ، فيضيع ما فيها ، أو يقتل شهوده ، ولو أضعف من التقطيع ; لأنه متعد على سبب الشهادة ، والأول متعد على نفسها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : قال : والمرسل كلبه على صيد ، فيأخذ غيره لا يؤكل لعدم النية خلافا لـ ( ش ) ، وابن حنبل ، أو على جماعة ، وينوي أي شيء أخذ منها ، أو على جماعتين أكل لحصول النية ، وكذلك الرمي ، وإن عين واحدا ، فأصاب غيره لم يؤكل ، وقال الأئمة : يؤكل نظرا لأصل النية ، وإن رأى جماعة فنواها ونوى أن يجاوزها لغيرها ، فكذلك أيضا يؤكل ما صيد منها أو من غيرها . قال ابن يونس : قال أشهب : لا يأكل ما صاده من غيرها ، ولا ما أرسل عليه في غيضة لا يعلم ما فيها إذا كان المكان لا يؤمن أن يدخل فيه صيد بعد الإرسال ، وأجازه أصبغ لندور الزيادة على الحاصل عند الإرسال ، وفي الجواهر : لا يبيح ابن القاسم الإرسال إلا على الموضع المحصور ، وأشهب لا يجيزه إلا على المرئي كالذبيحة لا ينوي إلا معينا ، وأصبغ يبيح المعين بالجهة . قال اللخمي : ولو نوى واحدا غير معين ، فأصاب اثنين أكل الأول فقط ; لأن الثاني غير ذكي ، فإن شك فيه لم يؤكل ، وإن نوى اثنين فأكثر أكل الجميع في السهم والجوارح عند مالك وابن القاسم ، وخالف ابن المواز في الجوارح دون السهم ، والفرق : أن السهم يقتل الجميع على الفور بخلاف الجوارح .

                                                                                                                [ ص: 182 ] فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا أثار صيدا واشللى كلبه وهو مطلق من غير إرسال من يده أكل لوجود الإشلاء ، ثم قال : لا يؤكل حتى يرسله من يده لتكون حركة الجارح من يده كالمدية ، وبالأول أخذ ابن القاسم ، وأما لو ابتدأ الكلب طلبه ، وأفلت من يده ، ثم أشلاه بعد لم يؤكل لقوة إضافته للجارح لا له . قال ابن يونس : أجاز أصبغ أكل ما يبتدئ الكلب طلبه إذا أتبعه الانشلاء والتسمية ; لأن الجارح لا بد من مشاركته للصائد بطبعه . قال محمد : وإذا رأى جارحه يحد النظر وينقلب ، فأرسله على شيء لم يره الصائد أكل ما أخذه كالإرسال في الغياض ، وقاله . وقال مالك : لا أحب أكله ; لأنه وإن أرسل على مظنون الوجود ، فلعل الممسك غير المرئي أولا للجارح إلا أن يتيقنه ، ولو اضطرب الجارح ، فوقع الصيد في حفرة لا مخرج له منها ، أو انكسرت رجله ، فتمادى عليه ، فقتله لم يؤكل .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : المرسل كلبه على صيد ثم يرجع ثم يعود ، إن كان رجوعه مراوغة أكل ، وإن كان إعراضا لجيفة أو غيرها لم يؤكل لبطلان الإرسال ، وهو شرط .

                                                                                                                [ ص: 183 ] فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا قطع رأس صيد أكل إن نوى اصطياده ، وإلا فلا ، وإن قطع يده ، أو رجله ، أو ما يعيش بعده أكل بقيته دون المباين لما يروى أنه - عليه السلام - قدم المدينة ، فوجدهم يجزون أسنمة الإبل ، وإليات الغنم ، فقال : ( ما أبين من الحي فهو ميتة ) فإن كان يعود التحام ما قطع أكل جميعه . قال المازري : ووافقنا ( ش ) في أكل النصفين ، ومنع ( ح ) إلا أن يكون ما يلي الرأس أقل ، فإنه من معنى التذكية ، وأجاز ( ش ) أكل العضو المبان مطلقا إذا مات الصيد من تلك الضربة ; لأنه لم يبن عن حي إلا إذا تعدد الضرب ، فقد أبين عن حي ، والتذكية إنما حصلت بالثانية . قال صاحب البيان : لا خلاف أنه لا يؤكل المبان إذا كان الفخذين ونحوهما ، وأنه يؤكل الجميع إذا قسمه نصفين ، فإن أبان وركيه مع فخذيه ، ولم تبلغ الضربة إلى الجوف . قال مالك : لا يؤكل المبان ، وقال ابن حبيب كذلك إن أبين العجز مع ذلك ، والصواب أكل الجميع ، وإن بقي العجز ; لأنه لا يعيش بعد الفخذين ، فلو قطع خطمه لم يؤكل الخطم ، وإن تعذر عليه الرعي ; لأنه ليس بمقتل ، فقد يصب الماء في حلقه .

                                                                                                                [ ص: 184 ] فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا شحت الصيد ، فمات من الانبهار دون جرح يؤكل ، وقاله ( ش ) ، و ( ح ) خلافا لابن حنبل وأشهب ، ومنشأ الخلاف أن أصل الذكاة إخراج الدماء بجملتها ، اقتصر على الجرح في الوحش للضرورة ، وإن لم توجد فهو ميتة ، أو ينظر إلى ظاهر قوله : ( مما أمسكن عليكم ) وهذا ممسك علينا .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : لو رمى صيدا في الهواء فسقط في الماء أو في جبل فتردى فمات ؛ لم يؤكل ، إذ لعل سبب موته الغرق أو التردي دون الرمي إلا أن ينفذ مقاتله . وقاله ( ش ) ، و ( ح ) .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : إذا رمى غزالا يظنه بقر وحش ، فالصواب أنه يؤكل ; لأنه نوى الصيد ، وقال أصبغ : لا يؤكل ; لأنه لم ينو خصوصه ، ويلزم على هذا إذا نوى ذكاة كبش فظهر أنه نعجة .

                                                                                                                [ ص: 185 ] فرع

                                                                                                                قال المازري : إذا أرسل مسلم ومجوسي كلبيهما ، ولم يعلم استقلال كلب المسلم لم يؤكل ، وإن أرسل المسلم وحده كلبه ، فرد كلب المجوسي على كلب المسلم الصيد أجازه ( ش ) ، ومنعه ( ح ) قال : وهو مقتضى أصولنا ; لأنا نقتل الممسك للقتل ، وإن لم يقتل مع أن ( ش ) ، و ( ح ) لا يقتلاه ، فبقي ( ش ) على أصله ، وغلب ( ح ) حكم التحريم هاهنا ، واحتج الشافعية على ( ح ) أن كلب المجوسي لو قرب الصيد سهم المسلم أكل اتفاقا ، وإذا أمسك مجوسي كبشا لمسلم حتى ذكاه أكل اتفاقا مع وجود الإعانة قال : وعندي في السهم نظر . ولو أثار كلبه فأغراه مجوسي أكل بخلاف العكس ، وقاله ( ح ) لأن الأصل الإرسال ، وإذا شارك المعلم غير معلم إن تيقن المعلم أكل ، أو غير المعلم لم يؤكل أو شك لم يؤكل ، أو ظن فقولان .

                                                                                                                فروع

                                                                                                                في الكتاب : من طرد صيدا ، فدخل دار إنسان ; لأنه اضطره ، فهو له ، وإن لم يضطره ، فهو لصاحب الدار ، وما وقع في الحبالة ، فأخذه أجنبي هو لربها . قال ابن يونس : ومن اضطر صيدا إلى حبالة بإلجائه ، فهو له ، وإلا فلربها ، وإن تعمد وقوعه فيها ، فلهما بقدر ما يرى ذلك . قاله مالك ، وقال أصبغ : هو للطارد ، وعليه قيمة الانتفاع بالحبالة كمن صاد بكلب رجل أو سهمه ، وقال محمد : هو لطالبه سواء تعمد أو ألجأ ، وعليه الأجرة ، ولو [ ص: 186 ] كان الصيد غير ملجئ ، فلصاحب الحبالة ; لأنها كيده بسبب نصبها لذلك ، وقال ابن القاسم : الصيد بكلب رجل له الأجرة والصيد لرب الكلب ، كما لو تعدى على عبد رجل ، فبعثه يصيد له بخلاف المتعدي على الفرس ، الصيد له ، وعليه الأجرة ; لأن الفرس ليس ممسكا .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : قال مالك : إذا ند الصيد المملوك بصيد ، أو بشراء ، ثم صيد بقرب ، ولم يتوحش ، فهو للأول ، وإلا فلمن صاده . قال المازري : قال ابن عبد الحكم والأئمة : هو للأول وإن طال توحشه كسائر الأملاك لا تبطل بالغيبة عن المالك ، وقال ابن حنبل : إذا وقع في شبكته دون يده ملكه ، وإن انفلت ، فلمن أخذه بخلاف يده ، فإن لم يتأنس عند الأول ، قال ابن عبد الحكم أيضا : هو للأول ، وقيل : للثاني بخلاف ندوده بعد تأنسه ، واتفقوا على الحربي يؤسر ، ثم يبق إلى بلد الحرب ، ثم يؤسر ، فإنه للأول ، وهو شديد الشبه بالمصيد ، وقد فرق بعض أصحابنا بأن الحربي له من يمنعه ، والصيد بقي دون مانع كموات الأرض إذا أحيي ثم خرب ، والروايات على التسوية بين مالك الأول بصيد أو شراء ، وقال في الكتاب : إن كانت بشراء ، فللأول ، أو بصيد فللثاني كما قلنا في إحياء الأرض .

                                                                                                                واتفقوا على أن الماء إذا حيز من نهر ، ثم انصب فيه أن الملك يسقط ، ونقل عن الشافعي أن الملك باق في الماء .

                                                                                                                [ ص: 187 ] فرع

                                                                                                                في الكتاب : من صاد ظبيا في أذنه قرطان عرفهما ، وإن كان هروبه هروب انقطاع ، فالصيد للصائد ، وما عليه فلربه ، فإن قال ربه : ند من يومين ، وقال الصائد : لا علم لي ، فعلى ربه البينة ; لأنه مدع إلا أن يجده مربوطا بخيط ، أو في شجرة ، فللأول ، وقال سحنون : البينة على الصائد لأنه مدع زوال ملك الأول ، وقال ابن عبد الحكم وش ، و ( ح ) : هو للأول طال زمانه أو قصر ؛ استصحابا للملك السابق . لنا : القياس على صيد الماء ، وهذه الفروع تنزع إلى قاعدة إحياء الموات ، وأنه إذا ذهب إحياؤه عاد مواتا ، ويمكن الفرق بأن الشرع أصدر ذلك بصيغة الشرط ، فقال : ( من أحيا أرضا ميتة فهي له ) ويلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط ، وهاهنا بصيغة الإذن ، والتمليك كالمعادن وغيرها ، وقال تعالى : (وإذا حللتم فاصطادوا ) ( المائدة : 2 ) ولأن الموات إذا خرب بترك مجيئه له كان ذلك إعراضا عن ملكه ، وإسقاطا له ، والصيد فر بنفسه ، نظيره : غصب الموات المحيا ، فإنه لا يسقط الملك فيه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية