الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1185 5 - ( حدثنا بشر بن محمد ، قال : أخبرنا عبد الله ، قال : أخبرني معمر ويونس ، عن الزهري قال : أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته قالت : أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله تعالى عنها ، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه ، فقبله ثم بكى ، فقال : بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين ; أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها . قال أبو سلمة : فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن أبا بكر رضي الله عنه خرج وعمر رضي الله عنه يكلم الناس ، فقال : اجلس فأبى ، فقال : اجلس ، فأبى ، فتشهد أبو بكر رضي الله عنه فمال إليه الناس ، وتركوا عمر ، فقال : أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت . قال الله تعالى : وما محمد إلا رسول إلى الشاكرين والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه ، فتلقاها منه الناس فما يسمع بشر إلا يتلوها ).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة قيل : لا نسلم الظهور ; لأن الترجمة في الدخول على الميت إذا أدرج في الكفن ، ومتن الحديث وهو مسجى ببرد حبرة ، ولم يكن حينئذ غسل ، فضلا عن أن يكون مدرجا في الكفن ، وأجيب بأن كشف الميت بعد تسجيته [ ص: 14 ] مساو لحاله بعد تكفينه ، وذلك لأن منهم من منع عن الاطلاع على الميت إلا الغاسل ومن يليه ; وذلك لأن الموت سبب لتغير محاسن الحي ; لأنه يكون كريها في المنظر ، فلذلك أمر بتغميضه وتسجيته ، وأشار البخاري إلى جواز ذلك بالترجمة المذكورة ، ولما كان حاله بعد التسجية مثل حاله بعد التكفين وقع التطابق بين الترجمة والحديث من هذه الحيثية .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله .

                                                                                                                                                                                  وهم سبعة الأول بشر بكسر الباء الموحدة ، وسكون الشين المعجمة ابن محمد أبو محمد السختياني المروزي ، مات سنة أربع وعشرين ومائتين . الثاني : عبد الله بن المبارك . الثالث : معمر بفتح الميمين ابن راشد . الرابع : يونس بن يزيد . الخامس محمد بن مسلم الزهري السادس أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف . السابع أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده :

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد ، وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضع ، وبصيغة الإفراد في ثلاثة مواضع ، وفيه القول في أربعة مواضع ، وفيه أن شيخه من أفراده ، وهو وعبد الله مروزيان ، ومعمر بصري ، ويونس أيلي ، والزهري وأبو سلمة مدنيان ، وفيه أربعة منهم بلا نسبة ، وواحد بالكنية ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) :

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن يحيى بن بكير ، عن ليث عن عقيل ، وفي فضل أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، عن إسماعيل بن أبي أويس . وأخرجه النسائي في الجنائز ، عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك به . وأخرجه ابن ماجه فيه ، عن علي بن محمد عن أبي معاوية .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " بالسنح " بضم السين المهملة والنون والحاء المهملة ، وهو منازل بني الحارث بن الخزرج ، بينها وبين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميل ، وزعم صاحب المطالع أن أبا ذر كان يقوله بإسكان النون . قوله : " فتيمم " ، أي قصد النبي صلى الله عليه وسلم قوله " وهو مسجى " جملة اسمية وقعت حالا ، ومسجى اسم مفعول من سجى يسجي تسجية ، يقال : سجيت الميت تسجية إذا مددت عليه ثوبا ، ومعنى مسجى هنا مغطى . قوله " ببرد حبرة " بالوصف والإضافة ، والبرد بضم الباء الموحدة وسكون الراء وهو نوع من الثياب معروف ، والجمع أبراد ، وبرود ، والبردة الشملة المخططة ، وحبرة على وزن عنبة : ثوب يماني يكون من قطن ، أو كتان مخطط ، وقال الداودي : هو ثوب أخضر . قوله " ثم أكب عليه " هذا اللفظ من النوادر ; حيث هو لازم وثلاثيه : كب متعد ، عكس ما هو المشهور في القواعد التصريفية . قوله " فقبله " ، أي بين عينيه ، وقد ترجم عليه النسائي ، وأورده صريحا حيث قال : تقبيل الميت وأين يقبل منه . قال : أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عروة " عن عائشة أن أبا بكر قبل بين عيني النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت " . قوله : " بأبي أنت " ، أي أنت مفدى بأبي ، فالباء متعلقة بمحذوف ، فيكون مرفوعا ; لأنه يكون مبتدأ وخبرا ، وقيل : فعل ، فيكون ما بعده منصوبا تقديره : فديتك بأبي . قوله : " لا يجمع الله عليك موتتين " قال الداودي : لم يجمع الله عليك شدة بعد هذا الموت ; لأن الله تعالى قد عصمك من أهوال القيامة ، قال : وقيل لا يموت موتة أخرى في قبره كما يحيى غيره في القبر ، فيسأل ثم يقبض ، وقال ابن التين : أراد بذلك موته وموت شريعته ، يدل عليه قوله : " من كان يعبد محمدا " ، وقيل : إنما قال ذلك ردا لمن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت وسيبعث ويقطع أيدي رجال وأرجلهم . قيل : إنه معارض لقوله تعالى أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وأجيب بأن الأولى الخلقة من التراب ، ومن نطفة ; لأنهما موات ، والثانية التي بموت الخلق وإحدى الحياتين في الدنيا ، والأخرى بعد الموت في الآخرة ، وعن الضحاك أن الأولى الموت في الدنيا والثانية الموت في القبر بعد الفتنة والمساءلة واحتج بأنه لا يجوز أن يقال للنطفة والتراب : ميت ، وإنما الميت من تقدمت له حياة ، ورد عليه بقوله تعالى : وآية لهم الأرض الميتة أحييناها لم يتقدم لها حياة قط ، وإنما خلقها الله جمادا ومواتا ، وهذا من سعة كلام العرب . قوله " التي كتب الله " ، أي قدر الله ، وفي رواية الكشميهني : " التي كتبت " على صيغة المجهول ، أي قدرت . قوله متها بضم الميم وكسرها ، من مات يموت ، ومات يمات ، والضمير فيه يرجع إلى الموتة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " وعمر يكلم الناس " الواو فيه للحال . قوله " فما يسمع بشر " يسمع على صيغة المجهول ، تقديره ما يسمع بشر يتلو شيئا إلا يتلو هذه الآية .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه: فيه استحباب تسجية الميت ، وفيه جواز تقبيل الميت لفعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وكأن [ ص: 15 ] أبا بكر في تقبيله النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا قدوة به عليه الصلاة والسلام، لما روى الترمذي " مصححا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت فأكب عليه وقبله، ثم بكى حتى رأيت الدموع تسيل على وجنتيه " ، وفي التمهيد : لما توفي عثمان كشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه وبكى بكاء طويلا ، وقبل بين عينيه ، فلما رفع على السرير قال : طوبى لك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها ، وفيه جواز البكاء على الميت من غير نوح ، وفيه أن الصديق أعلم من عمر ، وهذه إحدى المسائل التي ظهر فيها ثاقب علمه وفضل معرفته ورجاحة رأيه وبارع فهمه وحسن إسراعه بالقرآن وثبات نفسه ، وكذلك مكانته عند الإمرة لا يساويه فيها أحد إلا يرى أنه حين تشهد بدأ بالكلام مال إليه الناس وتركوا عمر ، ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته في النفوس على عمر وسمو محله عندهم ، وقد أقر بذلك عمر حين مات الصديق ، فقال : والله ما أحب أن ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبي بكر ولوددت أني شعرة في صدره ، وذكر الطبري عن ابن عباس قال: إني والله لأمشي مع عمر في خلافته وبيده الدرة ، وهو يحدث نفسه ويضرب قدمه بدرته ما معه غيري إذ قال لي : يا ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلت : لا أدري والله يا أمير المؤمنين قال : فإنه ما حملني على ذلك إلا قوله عز وجل : وكذلك جعلناكم أمة وسطا إلى قوله : شهيدا فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بأجزاء أعمالها ، وفيه حجة مالك في قوله في الصحابة مخطئ ومصيب في التأويل ، وفيه اهتمام عائشة رضي الله تعالى عنها بأمر الشريعة ، وأنها لم يشغلها ذلك عن حفظها ما كان من أمر الناس في ذلك اليوم ، وفيه غيبة الصديق عن وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم ; لأنه كان في ذلك اليوم بالسنح وكان متزوجا هناك ، وفيه الدخول على الميت بغير استئذان ، ويجوز أن يكون عند عائشة غيرها ، فصار كالمحفل لا يحتاج الداخل إلى إذن ، وروي أنه استأذن ، فلما دخل أذن للناس ، وفيه قول أبي بكر لعمر : اجلس فأبى إنما ذلك لما دخل عمر من الدهشة والحزن ، وقد قالت أم سلمة : " ما صدقت بموت النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعت وقع الكرازين " . قال الهروي هي الفئوس وقيل : تريد وقع المساحي تحثو التراب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويحتمل أن عمر رضي الله تعالى عنه ظن أن أجله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأت ، وأن الله تعالى من على العباد بطول حياته ويحتمل أن يكون أنسي قوله تعالى إنك ميت وقوله : وما محمد إلا رسول إلى أفإن مات وكان يقول مع ذلك ذهب محمد لميعاد ربه كما ذهب موسى لمناجاة ربه ، وكان في ذلك ردعا للمنافقين واليهود حين اجتمع الناس ، وأما أبو بكر رضي الله تعالى عنه فرأى إظهار الأمر تجلدا ، ولما تلا الآية كانت تعزيا وتصبرا ، وفيه جواز التفدية بالآباء والأمهات ، وفيه ترك تقليد المفضول عند وجود الفاضل .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية