الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما هجن سبحانه الظهار، وأثبت تحريمه على أبلغ وجه وآكده، وكان ما مضت عليه العوائد لا بد أن يبقى منه بقايا، أتبع ذلك بيان حكم هذه الواقعة وما لعله يقع من نظائرها فقال: والذين يظاهرون ولما كان في بيان الحكم، أسقط التقييد إعلاما بعمومه الكافر كعمومه المسلم ليفيد تغليظ العقاب [عليه] لئلا يتوهم أنه يخص العرب الذين قصد تهجينه عليهم بأنهم انفردوا به عن سائر الناس فقال: من نسائهم بدون " منكم " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان مقتضى اللفظ المباعدة ممن قيل ذلك فيها، فكان إمساكها بعده ينبغي أن يكون في غاية البعد، قال مشيرا إلى ذلك [بأداة] [ ص: 349 ] البعد ثم يعودون أي بعد هذا القول لما قالوا بالفعل بأن يعاد هذا القول مرة أخرى أو بالقوة بأن يمسكوا المقول ذلك لها زمنا يمكن أن يعاد فيه هذا القول مرة ثانية من غير مفارقة بلفظ مما ناط الله الفرقة به من طلاق [أو] سراح أو نحوهما، فيكون المظاهر عائدا إلى هذا القول بالقوة لإمكان [هذا] القول في ذلك الزمن، وذلك لأن العادة قاضية بأن من قال قولا [ولم يبته] وينجزه ويمضه بأن يعود إلى قوله مرة أخرى وهلم جرا، أو يكون التقدير لنقض ما قالوا: فيحلوا ما حرموا على أنفسهم بعدم البت بالطلاق، فإن كان الظهار معلقا لم يلزم حكمه إلا بالحنث، فإن طلق في الحال وإلا لزمته [الكفارة]، وحق العبارة التعبير باللام لدلالتها على الاتصال كما يقتضيه الحال بخلاف "إلى" فإنها تدل على مهلة وتراخ، هذا في الظهار المطلق، وأما الموقت بيوم أو شهر أو نحو ذلك فلا يكون عائدا فيه إلا بالوطئ في الوقت المظاهر فيه، وأما مجرد إمساكها فليس بعود لأنه إنما أمسكها لما [له] فيها من الحل بعد وقت الظهار.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المبتدأ الموصول مضمنا معنى الشرط، أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرر الوجوب بتكرر سببه فقال: فتحرير [ ص: 350 ] أي فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير رقبة أي سليمة عن عيب يخل بالعمل كاملة الرق مقيدة [أيضا] بمؤمنة لأنها قيدت [بذلك] في كفارة القتل، فيحمل هذا على ذاك، ولأن معاوية بن الحكم رضي الله عنه كانت له جارية فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: علي رقبة أفأعتقها، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله فأخبرته بما دل على توحيدها فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة- رواه مالك ومسلم، فعلل الإجزاء بالإيمان ولم يسأله عن سبب الوجوب، فدل على أنه لا فرق بين واجب وواجب، والموجب للكفارة [الظهار] والعود جميعا كما أن الموجب في اليمين [اليمين] والحنث معا.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التحرير لا يستغرق زمن القبل بل يكون في بعضه، أدخل الجار فقال: من قبل ولما كان المراد المس بعد المظاهرة لا مطلقا قال: أن يتماسا أي يتجدد منهما مس وهو الجماع سواء كان ابتداء المباشرة منه أو منها بما أفادته صيغة التفاعل، وهو حرام قبل التكفير ولو كان على أدنى وجوه التماس وأخفاها بما أشار إليه الإدغام ولو كان بإيلاج الحشفة فقط مع الإنزال أو بدونه، وأما [ ص: 351 ] مقدمات الجماع فهي فيها كالحائض لا تحرم على الأظهر، فإن جامع عصى ولم تجب كفارة أخرى، لما روى الترمذي عن سلمة بن صخر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، قال: كفارة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الوعظ هو الزجر عن الفعل الموعوظ لأجله، قال مستأنفا: ذلكم أي الزجر العظيم جدا الذي هو عام لكم من غير شبهة توعظون به أي يكون بمشقة زاجرا لكم عن العود إلى مقاربة مثل ذلك فضلا عن مقارفته لأن من حرم من أجلها الله تحريما متأبدا على زعمه [كان] كأنه قد قتلها، ولكون [ذلك] بلفظ اخترعه وانتهك فيه حرمة أمه كان كأنه قد عصى معصية أوبق بها نفسه كلها إيباقا أخرجه إلى [أن] يقتلها عضوا عضوا بإعتاق [رقبة] تماثل رقبته ورقبة من كان قتلها.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: فالله بما يردعكم بصير، عطف عليه قوله: والله أي الذي له الإحاطة بالكمال، وقدم الجار إشارة إلى إرادة المبالغة للتنبيه على الاهتمام بإلزام الانتهاء عن ذلك فقال: بما تعملون أي تجددون فعله خبير أي عالم بظاهره وباطنه، فهو عالم بما يكفره، فافعلوا ما أمر الله به وقفوا عند حدوده، قال القشيري: [والظهار -] وإن لم يكن له في [ ص: 352 ] الحقيقة أصل ولا بتصحيحه نطق ولا له شرع، بعد ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ولوح بشيء ما وقال: إنه حكمه لم يخل الله من بيان ساق إليه شرعه فقضى فيه بما انتظم فيه الجواب ارتفاع شكواها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية