الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا [19]

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1157 ] وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها نهي عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الإيذاء والظلم.

                                                                                                                                                                                                                                      روى البخاري ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      ورواه أبو داود والنسائي وغيرهم، ولفظ أبي داود ، عن ابن عباس : أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت، أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، أي: نهى عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي : ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد، ولا يجري مجرى الأموال بوجه.

                                                                                                                                                                                                                                      و: كرها بفتح الكاف وضمها قراءتان، أي: حال كونهن كارهات لذلك! أو مكرهات عليه، والتقييد (بالكره) لا يدل على الجواز عند عدمه؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، كما في قوله: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [الإسراء: من الآية 31].

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الخطاب للأزواج، كما عليه أكثر المفسرين.

                                                                                                                                                                                                                                      روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن الآية في الرجل تكون له المرأة، وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضرها لتفتدي به.

                                                                                                                                                                                                                                      والعضل الحبس والتضييق.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1158 ] أي: ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن، أي: من الصداق، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن.

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي: زنى، كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك، وتخالعها، كما قال تعالى في سورة البقرة: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [البقرة: من الآية 229] الآية.

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن ابن عباس أيضا وغيره: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان، واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله: الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك، يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه، ويفارقها.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وهذا جيد، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو السعود : (مبينة) على صيغة الفاعل من (بين) بمعنى تبين، وقرئ على صيغة المفعول، وعلى صيغة الفاعل من (أبان) بمعنى تبين أي: بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة، ويعضده قراءة أبي: (إلا أن يفحشن عليكم) انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "الإكليل" استدل قوم بقوله: ببعض ما آتيتموهن على منع الخلع بأكثر مما أعطاها، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله: وعاشروهن أي: صاحبوهن بالمعروف أي: بالإنصاف في الفعل والإجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن، أو سبب النشوز أو سوء الخلق، فلا يحل لكم حينئذ.

                                                                                                                                                                                                                                      قال السيوطي في: "الإكليل": في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم [ ص: 1159 ] واللين في القول وترك الضرب والإغلاظ بلا ذنب.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن كرهتموهن يعني كرهتم الصحبة معهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا أي: ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا يكون فيه خير كثير، وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالإنفاق عليهن والإحسان إليهن، على خلاف الطبع.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "الإكليل" قال إلكيا الهراسي : في هذه الآية استحباب الإمساك بالمعروف وإن كان على خلاف هوى النفس ، وفيها دليل على أن الطلاق مكروه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر .

                                                                                                                                                                                                                                      و(يفرك) بفتح الياء والراء، معناه يبغض.

                                                                                                                                                                                                                                      لطيفة:

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو السعود : ذكر الفعل الأول - مع الاستغناء عنه - وانحصار العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعوله؛ ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه، بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق، حسب اقتضاء الحكمة، وإن ما نحن فيه مادة من موادها، وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن :

                                                                                                                                                                                                                                      كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة، وهي قوله تعالى: وعاشروهن بالمعروف

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله، كما قال تعالى: [ ص: 1160 ] ولهن مثل الذي عليهن [البقرة: 228].

                                                                                                                                                                                                                                      وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي رواه الترمذي عن عائشة ، وابن ماجه عن ابن عباس ، والطبراني عن معاوية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم للنساء رواه الحاكم عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، ما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم رواه ابن عساكر ، عن علي عليه السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يقول: بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، وذكر ووعظ ثم قال: ألا واستوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: (عوان) أي: أسيرات، جمع عانية.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ [ ص: 1161 ] قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت رواه أبو داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه، ورميه بقوسه ونبله، ومداعبة أهله رواه أبو داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية له: كل شيء يلهو به الرجل باطل، إلا تأديبه فرسه، ورميه عن قوسه، ومداعبته أهله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير : وكان من أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعدما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وكان - صلى الله عليه وسلم - يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1162 ] وقال الغزالي في: "الإحياء" في (آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح): الأدب الثاني: حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن؛ ترحما عليهن، لقصور عقلهن، قال الله تعالى: وعاشروهن بالمعروف وقال في تعظيم حقهن: وأخذن منكم ميثاقا غليظا [النساء: من الآية 21] وقال تعالى: والصاحب بالجنب [النساء: من الآية 36] قيل: هي المرأة.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال: واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل، وراجعت امرأة عمر عمر - رضي الله عنه - فقال: أتراجعيني؟ فقالت: إن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراجعنه، وهو خير منك.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعائشة : إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا، ورب محمد! وإذا كنت غضبى قلت: لا، ورب إبراهيم! قالت: قلت: أجل، والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1163 ] ثم قال الغزالي :

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة، فهي التي تطيب قلوب النساء، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال، حتى روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوما وسبقها في بعض الأيام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: هذه بتلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال العراقي : رواه أبو داود ، والنسائي في: "الكبرى" وابن ماجه في حديث عائشة بسند صحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت عائشة - رضي الله عنها -: سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عيد، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتحبين أن تري لعبهم؟ قالت: قلت: نعم، فأرسل إليهم فجاؤوا، وقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين البابين، فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه، وجعلوا يلعبون وأنظر، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: حسبك! وأقول: لا تعجل (مرتين أو ثلاثا) ثم قال: يا عائشة ! حسبك، فقلت: نعم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية للبخاري قالت: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عمر - رضي الله عنه -: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال لقمان رحمه الله تعالى: ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي، وإذا كان في القوم وجد رجلا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1164 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - لجابر : هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟ رواه الشيخان.

                                                                                                                                                                                                                                      ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله! لقد كان ضحوكا إذا ولج، سكوتا إذا خرج، آكلا ما وجد، غير سائل عما فقد. انتهى بتصرف.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم نهى تعالى عن أخذ شيء من صداق النساء من أراد فراقهن، بقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية