الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 468 ] وإن أبرأه مما معه ، برئ من الأمانة لا الدين

التالي السابق


( وإن أبرأه مما معه برئ من الأمانة ) وديعة كانت أو قراضا أو بضاعة أو نحوها ( لا ) يبرأ ( من الدين ) " غ " سكت عن لفظ عند وعلي وقال المازري إذا قال مالي قبله حق حمل على أنه أبرأه من سائر الحقوق كانت ديونا في ذمته أو أمانة عنده ، وإذا قال مالي عنده حق فالأمر عندنا كذلك خلافا لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه الذي خصصه بالأمانات ، وإن قال مالي عليه حق فقال سحنون يعم الدين والأمانة ، وقال ابنه يخص المضمون كالدين والعارية المضمونة ، وعندي أن لفظة علي لما كانت تقتضي الوجوب [ ص: 469 ] أدخل سحنون فيها المضمون والوديعة والقراض ، إذا يجب ردهما كالدين وصرف ابنه علي لنفس المال لا لرده فنفس الوديعة ليست على المودع ، وإن كان عليه ردها والحق في هذه الالتفات إلى المراد بهذه الألفاظ في اللغة أو الاستعمال أو عرف التخاطب . ا هـ . فتأمله مع ما في سماع أبي زيد لو أن رجلا شهد له شاهد بأن له عند زيد عشرة وشهد له آخر أن له عليه عشرين حلف مع كل شاهد يمينا وأخذ الثلاثين .

ابن رشد هذا بين لأن قول أحد الشاهدين له عنده خلاف قول الآخر له عليه لأن لفظة عند تقتضي الأمانة ، وعلي تقتضي الذمة ، فكل واحد منهما شهد له على زيد بغير ما شهد له به عليه الآخر أن يحلف مع كل واحد منهما ، ويستحق الثلاثين ، وإن شاء اليمين على المطلوب في الجميع وليس له أخذ العشرين دون يمين ، إذ لم يجتمع له عليها الشاهدان بخلاف شهادة أحدهما أن له عليه عشرة والآخر أن له عليه عشرين فله أخذ العشرة دون يمين لاجتماع الشاهدين عليها ، وإن شاء أن يحلف مع الشاهد الذي شهد له بالعشرين ويأخذها ، وهذا إذا كانت الشهادتان بمجلس واحد ولفظ واحد اختلفا فيه فقال أحدهما أقر له بعشرة ، وقال الآخر بعشرين ، وإن كان الإشهاد بمجلسين فهما حقان فله الحلف مع كل منهما ، ويستحق ما شهد له به ، ولو قال الشاهدان إنه حق واحد لبطلت شهادتهما ، ولو زعم الطالب أنهما حقان ، وإن زعم أن أحدهما بحق حلف معه وأخذ ما حلف عليه .

( تنبيهات ) الأول : الحطاب ما ذكره ابن رشد والمصنف من أنه لا تقبل دعواه بعد الإبراء هو المعروف من المذهب ، وما ذكره ابن عات ونقله صاحب الطراز في مبارآت الوصي عن يتيمه من أنه لو انعقد بين شخصين إنه لم يبق بينهما دعوى ولا حجة ولا يمين ولا علقه بوجه من الوجوه ثم ادعى أحدهما على الآخر بحق قبل تاريخ الإشهاد المذكور وثبت ببينة فإنه يأخذ صاحبه به ، ولا يضره الإشهاد على الإبراء لأنهما لم يسقطا فيه البينة ا هـ . البرزلي فعلى هذا يفتقر إلى ذكر إسقاط البينة الحاضرة والغائبة في السر والإعلان ، ومن أقام منهما [ ص: 470 ] بينة فهو زور آفكة لا عمل عليها . البرزلي وما قال ابن عات خلاف المشهور .

الثاني : ظاهر كلام المصنف بل صريحه وظاهر كلام المازري الذي نقله " غ " أن الإبراء يشمل الأمانات وهي معينات . وفي الذخيرة ما يخالفه ، ونصه الإبراء من المعين لا يصح فلا صح أبرأتك من داري التي تحت يدك لأن الإبراء الإسقاط والمعين لا يسقط ، نعم تصح فيها الهبة ونحوها . ا هـ . وهو ظاهر في نفسه إلا أن المراد بقول القائل أبرأتك من داري التي تحت يدك أسقطت مطالبتي بها ، ولا شك أنها تقبل الإسقاط ، فالكلام على حذف مضاف مع أن ما ذكره القرافي خلاف ما صرح به ابن عبد السلام في أول كتاب الصلح أن الإسقاط في المعين والإبراء أعم منه لأنه يكون في المعين وغيره ، والله أعلم .

الثالث : إذا عممت المبارأة بعد عقد الخلع فأفتى ابن رشد بأنه راجع لجميع الدعاوى كلها المتعلقة بالخلع أو بغيره وأفتى غيره بأنه يرجع إلى أحكام الخلع خاصة ، ذكره البرزلي في مسائل الخلع .

الرابع : الحط تحصل من هذه النصوص أنه إن كان الحق الذي يقوم به المبرئ قبل تاريخ البراءة فلا اختلاف أن القول قول المطلوب أنه دخل في البراءة ، وظاهر كلام ابن رشد أنه لا يلزمه يمين ولو ادعى عليه الطالب أنه نسيه أو غلط كما تقدم عن النوادر ، ونقله ابن بطال برمته ، ورأيت مكتوبا على هامش ، النسخة في لحوق اليمين خلاف ، وبلحوقها العمل انظر نوازل ابن الحاج والمفيد والله سبحانه وتعالى أعلم .

الخامس : الحط من ادعى عليه بشيء فلم يقر به ولم ينكره ، وقال عقب دعوى وأنا لي عليك أيضا حق أو شيء سماه فلا يكون ذلك إقرارا ، نقله ابن فرحون عن المازري .

السادس : الحط اختلف في المسكوت هل هو كالإقرار أم لا ، ففي العتبية سئل عن رجل جاء قوما فقال أشهدكم أن لي على فلان كذا دينارا وفلان معهما ساكت لم يقل نعم ولا لا ولم يسأله الشهود ، ثم جاء يطلب ذلك منه فقال لا شيء لك علي فقال ذلك لازم له [ ص: 471 ] لسكوته حين الإشهاد عليه ابن رشد اختلف في السكوت هل يعد إذنا في الشيء وإقرارا على قولين مشهورين منصوصين لابن القاسم في غير ما موضع من كتبه ، وأحدهما أنه إذن ، وثانيها ليس بإذن وأظهرهما أنه ليس بإذن ، لأن في قول النبي صلى الله عليه وسلم { والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها } ، دليلا على أن غيرها بخلافها في الصمت ، وقد أجمعوا على هذا في النكاح ، فوجب أن يقاس ما عداه عليه إلا ما يعلم بمستقر العادة أن أحدا لا يسكت عليه إلا برضا منه فلا يختلف في أن السكوت عليه بإقرار به كمن يرى حمل امرأته ويسكت ولا ينكره ثم ينكر بعد ذلك وما أشبه ذلك ا هـ .

ثم قال وفي مذهب ابن راشد عن ابن القاسم فيمن سئل عند موته هل لأحد عندك شيء فقال لا ، قيل ولا لامرأتك وهي سامعة ساكتة فإنها تحلف أن حقها عليه إلى الآن وتأخذه إن قامت لها به بينة ولا يضرها سكوتها ، ثم قال وقال ابن القاسم فيمن قال لرجل فلان الساكن في منزلك بم أسكنته فقال أسكنته بلا كراء والساكن سامع لم ينكر ولم يغير ثم ادعى أن المنزل له فقال لا يقطع سكوته دعواه إن أقام البينة أن المنزل له ، ولا يحلف لأنه يقول ظننت أنه يلاعبه ، زاد ابن سلمون كتب شجرة إلى سحنون فيمن أوصى بعتق أمته وهي سامعة ساكتة فلما مات قالت أنا حرة فقال لا يضرها سكوتها ، وذكر البرزلي عن التونسي أن من له دين على ميت قسم بعض عقاره وهو حاضر حين قسمته لم يتكلم ثم تكلم بعد ذلك واعتذر بأنه ترك الكلام ، فإن باقي العقار لم يقسم فإنه يقبل منه ذلك ابن سهل إذا دفع وديعة لرسول بغير بينة ثم جاء ربها فأعلمه به فسكت ثم طالبه بها فإنه يحلف ما أمر الرسول بقبضها وما كان سكوته رضا بقبضه ، ثم يغرمه ، ولو علم به وقال للدافع كلم فلانا القابض يحتال لي في المال الذي قبضه منك كان رضا بقبضه فيطلبه به ، وبرئ الدافع ومثله في النوادر والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية