الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              الآية الثانية قوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا } فيها ست مسائل :

                                                                                                                                                                                                              المسألة الأولى : قوله تعالى : { وآتوا } معناه وأعطوا ، أي مكنوهم منها ، واجعلوها في أيديهم ، وذلك لوجهين : أحدهما : إجراء الطعام والكسوة ; إذ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي والاستبداد . الثاني رفع اليد عنها بالكلية ، وذلك عند الابتلاء والإرشاد .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله اليتامى : وهو عند العرب اسم لكل من لا أب له من الآدميين حتى يبلغ الحلم ، فإذا بلغه خرج عن هذا الاسم ، وصار في جملة الرجال . وحقيقة اليتم الانفراد ; فإن رشد عند البلوغ واستقل بنفسه في النظر لها ، والمعرفة بمصالحها ، والنظر بوجود الأخذ والإعطاء منها زال عنه اسم اليتم ومعناه من الحجر ، وإن بلغ الحلم وهو مستمر في غرارته وسفهه متماد على جهالته زال عنه اسم اليتم حقيقة ، وبقي عليه حكم الحجر ، وتمادى عليه الاسم مجازا لبقاء الحكم عليه . [ ص: 403 ]

                                                                                                                                                                                                              المسألة الثالثة : قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } كانوا في الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى ، فيأخذون أموال اليتامى ويبدلونها بأموالهم ، ويقولون : اسم باسم ورأس برأس ، مثل أن يكون لليتيم مائة شاة جياد فيبدلونها بمائة شاة هزلى لهم ، ويقولون : مائة بمائة ; فنهاهم الله عنها .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة : قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } قال علماؤنا : معنى تأكلوا تجمعوا وتضموا أموالهم إلى أموالكم ، ولأجل ذلك قال بعض الناس : معناه مع أموالكم . والمعنى الذي يسلم معه اللفظ ما قلنا : نهوا أن يعتقدوا أن أموال اليتامى كأموالهم ويتسلطون عليها بالأكل والانتفاع .

                                                                                                                                                                                                              المسألة الخامسة : روي أن هذه الآية لما نزلت اعتزل كل ولي يتيمه ، وأزال ملكه عن ملكه حتى آلت الحال أن يصنع لليتيم معاشه فيأكله ، فإن بقي له شيء فسد ولم يقربه أحد ، فعاد ذلك بالضرر عليهم ، فأرخص الله سبحانه في المخالطة قصدا للإصلاح ، ونزلت هذه : { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم }

                                                                                                                                                                                                              المسألة السادسة : إن كان المعنى بالآية الإنفاق فذلك يكون ما دامت الولاية ، ويكون اسم اليتم حقيقة كما قدمناه . وإن كان الإيتاء هو التمكين وإسلام المال إليه فذلك عند الرشد ، ويكون تسميته يتيما مجازا ; المعنى الذي كان يتيما . وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ماله على أي حال كان . وهذا باطل ; فإن الآية المطلقة مردودة إلى المقيدة عندنا .

                                                                                                                                                                                                              والمعنى الجامع بينهما أن العلة التي لأجلها منع اليتيم من ماله هي خوف التلف عليه بغرارته وسفهه ; فما دامت العلة مستمرة لا يرتفع الحكم ، وإذا زالت العلة زال الحكم [ ص: 404 ] وهذا هو المعني بقوله سبحانه : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } وقد بينا وجوب حمل المطلق على المقيد ، وتحقيقه في أصول الفقه والمسائل ، وهبكم أنا لا نحمل المطلق على المقيد فالحكم بخمس وعشرين سنة لا وجه له ، لا سيما وأبو حنيفة يرى المقدرات لا تثبت قياسا ، وإنما تؤخذ من جهة النص ، وليس في هذه المسألة نص ولا قول من جميع وجوهه ، ولا يشهد له المعنى .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية