الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .

                                                                                                                                                                                                                                      ظاهر هذه الآية الكريمة أن كل شيء حواه المسلمون من أموال الكفار فإنه يخمس حسبما نص عليه في الآية ، سواء أوجفوا عليه الخيل والركاب أو لا ، ولكنه تعالى بين في سورة " الحشر " أن ما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف المسلمين عليه الخيل والركاب ، أنه لا يخمس ومصارفه التي بين أنه يصرف فيها كمصارف خمس الغنيمة المذكورة هنا ، وذلك في قوله تعالى : في فيء بني النضير وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب الآية [ 6 ] ، ثم بين شمول الحكم لكل ما أفاء الله على رسوله من جميع القرى بقوله : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول الآية [ 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أولا أن أكثر العلماء : فرقوا بين الفيء والغنيمة فقالوا : الفيء : هو ما يسره الله للمسلمين من أموال الكفار من غير انتزاعه منهم بالقهر ، كفيء بني النضير الذين نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومكنوه من أنفسهم وأموالهم يفعل فيها ما يشاء لشدة الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم ، ورضي لهم صلى الله عليه وسلم أن يرتحلوا بما يحملون على الإبل غير السلاح ، وأما الغنيمة : فهي ما انتزعه المسلمون من الكفار بالغلبة والقهر ، وهذا التفريق يفهم من قوله : واعلموا أنما غنمتم الآية ، مع قوله : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ، فإن قوله تعالى : فما أوجفتم عليه الآية ، ظاهر في أنه يراد به بيان الفرق بين ما أوجفوا عليه وما لم يوجفوا عليه كما ترى ، والفرق المذكور بين الغنيمة والفيء عقده الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله في غزوة بني النضير : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وفيئهم والفيء في الأنفال ما لم يكن أخذ عن قتال [ ص: 55 ]     أما الغنيمة فعن زحاف
                                                                                                                                                                                                                                      والأخذ عنوة لدى الزحاف

                                                                                                                                                                                                                                      لخير مرسل إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وفيئهم مبتدأ خبره لخير مرسل ، وقوله : والفيء في الأنفال . . . إلخ ، كلام اعتراضي بين المبتدأ والخبر بين به الفرق بين الغنيمة والفيء ، وعلى هذا القول فلا إشكال في الآيات ; لأن آية : واعلموا أنما غنمتم ، ذكر فيها حكم الغنيمة ، وآية : ما أفاء الله على رسوله ذكر فيها حكم الفيء وأشير لوجه الفرق بين المسألتين بقوله : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب أي فكيف يكون غنيمة لكم ، وأنتم لم تتعبوا فيه ولم تنتزعوه بالقوة من مالكيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض العلماء : إن الغنيمة والفيء واحد ، فجميع ما أخذ من الكفار على أي وجه كان غنيمة وفيئا ، وهذا قول قتادة رحمه الله وهو المعروف في اللغة ، فالعرب تطلق اسم الفيء على الغنيمة ، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي : [ الوافر ]


                                                                                                                                                                                                                                      فلا وأبي جليلة ما أفأنا     من النعم المؤبل من بعير
                                                                                                                                                                                                                                      ولكنا نهكنا القوم ضربا     على الأثباج منهم والنحور

                                                                                                                                                                                                                                      يعني أنهم لم يشتغلوا بسوق الغنائم ولكن بقتل الرجال فقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      أفأنا : يعني غنمنا ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك [ 33 \ 50 ] ; لأن ظاهر هذه الآية الكريمة شمول ذلك لجميع المسبيات ولو كن منتزعات قهرا ، ولكن الاصطلاح المشهور عند العلماء هو ما قدمنا من الفرق بينهما ، وتدل له آية الحشر المتقدمة ، وعلى قول قتادة فآية الحشر مشكلة مع آية الأنفال هذه ، ولأجل ذلك الإشكال قال قتادة - رحمه الله تعالى - : إن آية واعلموا أنما غنمتم الآية ، ناسخة لآية وما أفاء الله على رسوله الآية ، وهذا القول الذي ذهب إليه رحمه الله باطل بلا شك ، ولم يلجئ قتادة رحمه الله إلى هذا القول إلا دعواه اتحاد الفيء والغنيمة ، فلو فرق بينهما كما فعل غيره لعلم أن آية الأنفال في الغنيمة ، وآية الحشر في الفيء ، ولا إشكال . ووجه بطلان القول المذكور : أن آية واعلموا أنما غنمتم من شيء الآية ، نزلت بعد وقعة بدر ، قبل قسم غنيمة بدر بدليل حديث علي الثابت في " صحيح مسلم " ، الدال على أن غنائم بدر خمست ، وآية التخميس التي شرعه الله بها هي هذه ، وأما آية الحشر فهي نازلة في غزوة بني النضير بإطباق العلماء ، وغزوة بني النضير بعد غزوة بدر بإجماع [ ص: 56 ] المسلمين ، ولا منازعة فيه البتة ، فظهر من هذا عدم صحة قول قتادة رحمه الله تعالى ، وقد ظهر لك أنه على القول بالفرق بين الغنيمة والفيء لا إشكال في الآيات ، وكذلك على قول من يرى أمر الغنائم والفيء راجعا إلى نظر الإمام ، فلا منافاة على قوله بين آية " الحشر " ، وآية التخميس إذا رآه الإمام ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية