المقام الثاني : وهو الأقرب إلى الصواب ، سلمنا أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته ، لكنا نقول : لما تعذر حمله على حقيقته وجب حمله على مسببه وهو الرؤية ، إطلاقا لاسم السبب على المسبب ، وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار ، لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ولا تعلق بينه وبين الانتظار ، فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار .
أما قوله : النظر جاء بمعنى الانتظار ، قلنا : لنا في الجواب مقامان :
الأول : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28910النظر الوارد بمعنى الانتظار كثير في القرآن ، ولكنه لم يقرن البتة بحرف " إلى " كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=13انظرونا نقتبس من نوركم ) [ الحديد : 13] وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=53هل ينظرون إلا تأويله ) [ الأعراف : 53] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=210هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ) [ البقرة : 210] والذي ندعيه أن النظر المقرون بحرف " إلى " المعدى إلى الوجوه ليس إلا بمعنى الرؤية أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية - ظاهر ، فوجب أن لا يرد بمعنى الانتظار دفعا للاشتراك .
وأما قول الشاعر :
وجوه ناظرات يوم بدر إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
قلنا : هذا الشعر موضوع ، والرواية الصحيحة :
وجوه ناظرات يوم بكر إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
والمراد من هذا الرحمن
مسيلمة الكذاب ، لأنهم كانوا يسمونه رحمن
اليمامة ، فأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه التخلص من الأعداء ، وأما قول الشاعر :
وإذا نظرت إليك من ملك
فالجواب : أن قوله : وإذا نظرت إليك ، لا يمكن أن يكون المراد منه الانتظار ، لأن مجرد الانتظار لا يستعقب العطية ، بل المراد من قوله " وإذا نظرت إليك " وإذا سألتك ؛ لأن النظر إلى الإنسان مقدمة المكالمة ، فجاز التعبير عنه به ، وقوله : كلمة " إلى " ههنا ليس المراد منه حرف التعدي ، بل واحد الآلاء ، قلنا : إن " إلى " على هذا القول تكون اسما للماهية التي يصدق عليه أنها نعمة ، فعلى هذا يكفي في تحقق مسمى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة ، وإن كان في غاية القلة والحقارة ،
nindex.php?page=treesubj&link=28766وأهل الثواب يكونون في جميع مواقف القيامة في النعم العظيمة المتكاملة ، ومن كان حاله كذلك كيف يمكن أن يبشر بأنه يكون في توقع الشيء الذي ينطلق عليه اسم النعمة ، ومثال هذا أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حالك في العظمة والقوة بعد سنة ، بحيث تكون متوقعا لحصول اللقمة الواحدة من الخبز والقطرة الواحدة من الماء ، وكما أن ذلك فاسد من القول ، فكذا هذا .
المقام الثاني : هب أن النظر المعدى بحرف " إلى " المقرون بالوجوه - جاء في اللغة بمعنى الانتظار ، لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه ، لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا ، فلا بد وأن يحصل في
[ ص: 203 ] الآخرة شيء أزيد منه حتى يحسن ذكره في معرض الترغيب في الآخرة ، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول ، لأن ذلك معلوم بالعقل ، فبطل ما ذكروه من التأويل .
وأما التأويل الثاني : وهو أن المراد : إلى ثواب ربها ناظرة ، فهذا ترك للظاهر ، وقوله : إنما صرنا إليه لقيام الدلائل العقلية والنقلية على أن الله لا يرى ، قلنا : بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه ، فلا حاجة ههنا إلى ذكرها . والله أعلم .
الْمَقَامُ الثَّانِي : وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ ، سَلَّمْنَا أَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ نَحْوَ الْمَرْئِيِّ الْتِمَاسًا لِرُؤْيَتِهِ ، لَكِنَّا نَقُولُ : لَمَّا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُسَبِّبِهِ وَهُوَ الرُّؤْيَةُ ، إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ ، وَحَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الِانْتِظَارِ ، لِأَنَّ تَقْلِيبَ الْحَدَقَةِ كَالسَّبَبِ لِلرُّؤْيَةِ وَلَا تَعَلُّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْتِظَارِ ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الِانْتِظَارِ .
أَمَّا قَوْلُهُ : النَّظَرُ جَاءَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ ، قُلْنَا : لَنَا فِي الْجَوَابِ مَقَامَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28910النَّظَرَ الْوَارِدَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقْرَنِ الْبَتَّةَ بِحَرْفِ " إِلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=13انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) [ الْحَدِيدِ : 13] وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=53هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ) [ الْأَعْرَافِ : 53] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=210هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ) [ الْبَقَرَةِ : 210] وَالَّذِي نَدَّعِيهِ أَنَّ النَّظَرَ الْمَقْرُونَ بِحَرْفِ " إِلَى " الْمُعَدَّى إِلَى الْوُجُوهِ لَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَسْتَعْقِبُ الرُّؤْيَةَ - ظَاهِرٌ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَرِدَ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ :
وُجُوهٌ نَاظِرَاتٌ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى الرَّحْمَنِ تَنْتَظِرُ الْخَلَاصَا
قُلْنَا : هَذَا الشِّعْرُ مَوْضُوعٌ ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ :
وُجُوهٌ نَاظِرَاتٌ يَوْمَ بَكْرٍ إِلَى الرَّحْمَنِ تَنْتَظِرُ الْخَلَاصَا
وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الرَّحْمَنِ
مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ رَحْمَنَ
الْيَمَامَةِ ، فَأَصْحَابُهُ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَتَوَقَّعُونَ مِنْهُ التَّخَلُّصَ مِنَ الْأَعْدَاءِ ، وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ :
وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ مِنْ مَلِكٍ
فَالْجَوَابُ : أَنَّ قَوْلَهُ : وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِانْتِظَارَ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِانْتِظَارِ لَا يَسْتَعْقِبُ الْعَطِيَّةَ ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ " وَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ " وَإِذَا سَأَلَتُكَ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْإِنْسَانِ مُقَدِّمَةُ الْمُكَالَمَةِ ، فَجَازَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِهِ ، وَقَوْلُهُ : كَلِمَةُ " إِلَى " هَهُنَا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ حَرْفَ التَّعَدِّي ، بَلْ وَاحِدُ الْآلَاءِ ، قُلْنَا : إِنَّ " إِلَى " عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ اسْمًا لِلْمَاهِيَّةِ الَّتِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهَا نِعْمَةٌ ، فَعَلَى هَذَا يَكْفِي فِي تَحَقُّقِ مُسَمَّى هَذِهِ اللَّفْظَةِ أَيُّ جُزْءٍ فُرِضَ مِنْ أَجْزَاءِ النِّعْمَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28766وَأَهْلُ الثَّوَابِ يَكُونُونَ فِي جَمِيعِ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ فِي النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الْمُتَكَامِلَةِ ، وَمَنْ كَانَ حَالُهُ كَذَلِكَ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَشَّرَ بِأَنَّهُ يَكُونُ فِي تَوَقُّعِ الشَّيْءِ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ النِّعْمَةِ ، وَمِثَالُ هَذَا أَنْ يُبَشِّرَ سُلْطَانُ الْأَرْضِ بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ حَالُكَ فِي الْعَظَمَةِ وَالْقُوَّةِ بَعْدَ سَنَةٍ ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَوَقِّعًا لِحُصُولِ اللُّقْمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْخُبْزِ وَالْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَاءِ ، وَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ فَاسِدٌ مِنَ الْقَوْلِ ، فَكَذَا هَذَا .
الْمَقَامُ الثَّانِي : هَبْ أَنَّ النَّظَرَ الْمُعَدَّى بِحَرْفِ " إِلَى " الْمَقْرُونَ بِالْوُجُوهِ - جَاءَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ لَذَّةَ الِانْتِظَارِ مَعَ يَقِينِ الْوُقُوعِ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الدُّنْيَا ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ فِي
[ ص: 203 ] الْآخِرَةِ شَيْءٌ أَزْيَدُ مِنْهُ حَتَّى يَحْسُنَ ذِكْرُهُ فِي مَعْرِضِ التَّرْغِيبِ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ قُرْبَ الْحُصُولِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ ، فَبَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ .
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ : إِلَى ثَوَابِ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، فَهَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ ، وَقَوْلُهُ : إِنَّمَا صِرْنَا إِلَيْهِ لِقِيَامِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى ، قُلْنَا : بَيَّنَّا فِي الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ ضَعْفَ تِلْكَ الْوُجُوهِ ، فَلَا حَاجَةَ هَهُنَا إِلَى ذِكْرِهَا . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .