الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأنه عز وجل يثبت عباده المؤمنين على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له ؛ إذ لا يجب عليه لأحد فعل ، ولا يتصور منه ظلم ولا يجب لأحد عليه حق .

وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائه عليهم السلام لا بمجرد العقل ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة فبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده ، فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به .

التالي السابق


(وإنه عز وجل يثيب) أي: يجازي (عباده المؤمنين على الطاعات) الصادرة منهم، وهي ما وافقت أمره جل جلاله، لا إرادته، كما زعمته المعتزلة (بحكم الكرم) المحض (والوعد) السابق (لا بحكم الاستحقاق) والاستيجاب (واللزوم؛ إذ لا يجب لأحد عليه فعل، ولا يتصور منه ظلم) ؛ لأنه غير واضع للشيء في غير موضعه، ولا عادل عن طريق الحكمة والعدل في شيء من أفعاله، ولا يجوز أن يلحقه نقص في ملكه ولا في إرادته، فلم يكن موصوفا بالظلم بحال (ولا يجب لأحد عليه حق) ؛ لكون كل من سواه من مخترعاته ومخلوقاته ومصنوعاته، فأنى يكون للمخلوقات حق على الخالق؟! والحق لغة هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وهو الواجب اللازم من قولهم: لفلان علي حق، أي: دين واجب لازم .

(وإن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائهم -عليهم السلام- لا بمجرد العقل) ؛ لأن العقل لا يستقل بإدراك كون الفعل أو الترك متعلق المؤاخذة الشرعية (ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة) وهي الأمور الخوارق للعادات المقرونة بالتحدي، والموافقة للدعوى السالمة من المعارض على يد من يدعي النبوة، وقول إمام الحرمين: إنه لا يمكن نصب دليل على النبوة سوى المعجزة؛ محمول على ما يصلح دليلا على الإطلاق والعموم، ويصلح أن يكون حجة على المنكرين .

(فبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده، فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاؤوا به) ، وهذه المسألة معروفة بالتحسين والتقبيح العقليين، قالت الأشاعرة: لا تحسين، ولا تقبيح عقلا، أي أن الأفعال توصف بالحسن والقبح من حيث تعلق خطاب الشرع بها، ودليله السمعي قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، وبه تمسك المحدث أيضا، أما الصوفي فيقول: الأفعال كلها نسبتان: نسبة التكوين، ونسبة التكليف، أما نسبة التكوين فعامة; لأن الأفعال كلها لله تعالى، وبهذه النسبة لا توصف بالحسن أو القبح؛ لاستواء الإيجاد، بل هي حسنة من علم الفاعل وإرادته، وأما نسبة التكليف وهي الطلب فهي مختصة بأفعال المكلف، ومن المعلوم أن الطلب للشيء فرع العلم به، ولا علم بالحقيقة إلا لله تعالى؛ فلا تكليف ولا طلب إلا لله تعالى، وأيضا فإن تعلق الطلب بفعل أو ترك غيب [ ص: 34 ] فلا يعلم إلا بالتوقيف السمعي النبوي، فإذا الحسن والقبح لا يدرك بمجرد العقل، فلا حسن ولا قبح عقلا، وهو المطلوب، وقالت الحنفية: إن العقل قد يستقل بإدراك الحسن والقبح الذاتيين، أو لصفة، فيدرك القبح المناسب لثبوت حكم الله تعالى بالمنع من الفعل على وجه ينتهض معه الإتيان به سببا للعقاب، ويدرك الحسن المناسب لثبوت حكمه تعالى فيه بالإيجاب، والثواب بفعله والعقاب بتركه، وهو بعينه قول المعتزلة، إلا أن المعتزلة أطلقوا القول بعدم توقف حكم العقل بذلك على ورود الشرع، وسيأتي تحقيق ذلك على التفصيل في شرح الرسالة القدسية .

وهذا الذي ذكره المصنف أشار به إلى النوع الثالث عند المتأخرين، وهو معرفة ما يجوز في حق الله تعالى، وهو فعل كل ممكن وتركه، ومن فروعه بعثة الأنبياء إلى العباد، وإثابة المطيع، ومعاقبة العاصي، وقد أشار إليهما المصنف، وله فروع كثيرة، وكلها مما لا يجب شيء منها على الله تعالى، ولا يستحيل، بل وجودها وعدمها بالنسبة إليه سواء، ولفظ الجائز والممكن مترادفان على معنى واحد، وهو ما يصح في العقل وجوده وعدمه .




الخدمات العلمية