الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله تعالى : إلا ما ذكيتم فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه ؛ لأن قوله : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه ، وأن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة ، وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه ، وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة ؛ فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائدا إلى المذكور من عند قوله : والمنخنقة لما روي ذلك عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم : " ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز " . وحكي عن بعضهم أنه قال : الاستثناء عائد إلى قوله : وما أكل السبع دون ما تقدم ؛ لأنه يليه ؛ وليس هذا بشيء ، لاتفاق السلف على خلافه ؛ ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل ، وكذلك النطيحة وما ذكر معها ، فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله : والمنخنقة وإنما قوله : إلا ما ذكيتم فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله : " لكن ما ذكيتم " كقوله : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ومعناه : لكن قوم يونس ؛ وقوله : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى معناه : لكن تذكرة لمن يخشى ؛ ونظائره في القرآن كثيرة .

وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها ، فذكر محمد في الأصل في المتردية : إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت ، وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع . وعن أبي يوسف في الإملاء : أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكي قبل الموت .

وذكر ابن سماعة عن محمد : أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت ، وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح ؛ واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده [ ص: 300 ] وأوامره ، ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود .

وقال مالك : " إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت " . وقال الحسن بن صالح : " إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت " . وقال الأوزاعي : " إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت ، والمصيودة إذا ذبحت لم تؤكل " . وقال الليث : " إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها " .

وقال الشافعي في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت : إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها .

قال أبو بكر : قوله تعالى : إلا ما ذكيتم يقتضي ذكاتها ما دامت حية ، فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أو لا تعيش ، وأن تبقى قصير المدة أو طويلها ؛ وكذلك روي عن علي وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحت ذكاتها . ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة أن ذكاتها بالذبح ، فكذلك المتردية ونحوها ؛ والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية