الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد كثر الاختلاف في الكلالة ، وملخص ما قيل فيها : أنها الوارث ، أو الميت الموروث ، أو المال الموروث ، أو الوراثة ، أو القرابة . وظاهر قوله : يورث ، أي : يورث منه ، فيكون هو الموروث لا الوارث . ويوضحه قراءة من كسر الراء . وقال الزمخشري : فإن قلت : فإن جعلت يورث على البناء للمفعول من أورث فما وجهه ؟ قلت : الرجل حينئذ هو الوارث لا الموروث . فإن قلت : فالضمير في قوله : فلكل واحد منهما إلى من يرجع حينئذ ؟ قلت : إلى الرجل وإلى أخيه وأخته ، وعلى الأول إليهما ، فإن قلت : إذا رجع الضمير إليهما أفاد استواءهما في حيازة السدس من غير مفاضلة الذكر والأنثى ، فهل تبقى هذه الفائدة قائمة في هذا الوجه ؟ قلت : نعم ؛ لأنك إذا قلت : السدس له ، أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير ، فقد سويت بين الذكر والأنثى ، انتهى كلامه . وملخص ما قال : أن يكون المعنى : إن كان أحد اللذين يورثهما غيرهما من رجل أو امرأة له أحد هذين من أخ أو أخت ، فلكل واحد منهما السدس . وعطف امرأة على رجل ، وحذف منها ما قيد به الرجل لدلالة المعنى ، والتقدير : أو امرأة تورث كلالة . وإن كان مجرد العطف لا يقتضي تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه . والضمير في : ( وله ) عائد على الرجل ، نظير : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها في كونه عاد على المعطوف عليه . وإن كان يجوز أن يعاد الضمير على المعطوف ، تقول : زيد أو هند قامت ، نقل ذلك الأخفش والفراء . وقد تقدم لنا ذكر هذا الحكم . وزاد الفراء وجها ثالثا ، وهو : أن يسند الضمير إليهما . قال الفراء : عادة العرب إذا رددت [ ص: 190 ] بين اسمين بـ ( أو ) أن تعيد الضمير إليهما جميعا ، وإلى أحدهما ، أيهما شئت . تقول : من كان له أخ أو أخت فليصله . وإن شئت فليصلها انتهى . وعلى هذا الوجه - ظاهر قوله : ( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) وقد تأوله من منع الوجه . وأصل أخت أخوة على وزن شررة ، كما أن بنتا أصله بنية على أحد القولين في ابن ، أهو المحذوف منه واو أو ياء ؟ قيل : فلما حذفت لام الكلمة وتاء التأنيث ، وألحقوا الكلمة بقفل وجذع بزيادة التاء آخرهما ، قال الفراء : ضم أول أخت ليدل على أن المحذوف واو ، وكسر أول بنت ليدل على أن المحذوف ياء انتهى . ودلت هذه التاء التي للإلحاق على ما دلت عليه تاء التأنيث من التأنيث . وظاهر قوله : وله أخ أو أخت الإطلاق ، إذ الأخوة تكون بين الأحفاف والأعيان وأولاد العلات ، وأجمعوا على أن المراد في هذه الآية الإخوة للأم . ويوضح ذلك قراءة أبي : ( وله أخ أو أخت من الأم ) . وقراءة سعد بن أبي وقاص : ( وله أخ أو أخت من أم ) ، واختلاف الحكمين هنا وفي آخر السورة يدل على اختلاف المحكوم له ، إذ هنا الابنان أو الإخوة يشتركون في الثلث فقط ذكورا أو إناثا بالسوية بينهم . وهناك يحوزون المال ؛ للذكر مثل حظ الأنثيين ، والبنتان لهما الثلثان ، والضمير في ( منهما ) الظاهر أنه يعود على ( أخ أو أخت ) . وعلى ما جوزه الزمخشري يعود على أحد رجل وامرأة وأحد أخ وأخت ، ولو ماتت عن زوج وأم وأشقاء فله النصف ولهما السدس ، ولهم الباقي أولا فلهم الثلث . أو أخوين لأم أشقاء فهذه الحمادية . فهل يشترك الجميع في الثلث ، أم ينفرد به الأخوان لأم ؟ قولان ، قال بالتشريك عمر في آخر قضائه ، وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو حنيفة وأصحابه . وقال بالانفراد : علي وأبو موسى ، و أبي ، وابن عباس .

( فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ) الإشارة بذلك إلى أخ أو أخت ، أي أكثر من واحد . لأن المحكوم عليه بأن له السدس هو كل واحد من الأخ والأخت فهو واحد ، ولم يحكم على الاثنين بأن لهما جميعا السدس ، فتصح الأكثرية فيما أشير إليه وهو ذلك ، بل المعنى هنا بأكثر يعني : فإن كان من يرث زائدا على ذلك أي : على الواحد ، لأنه لا يصح أن يقول هذا أكثر من واحد إلا بهذا المعنى ، لتنافي معنى كثير وواحد ، إذ الواحد لا كثرة فيه . وفي قوله : فإن كانوا ، و فهم شركاء غلب ضمير المذكر ، ولذلك جاء بالواو وبلفظ : فهم ، هذا كله على ما قررت فيه الأحكام . وظاهر الآية : أنه إذا ترك أخا أو أختا ، أي أحد هذين ، فلكل واحد منهما السدس أو أكثر اشتركوا في الثلث ، أما إذا ترك اثنين من أخ أو أخت ، فلا يدل على ذلك ظاهر الآية .

( من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله ) الضمير في ( يوصى ) عائد على رجل ، كما عاد عليه في : وله أخ . ويقوي عود الضمير عليه أنه هو الموروث لا الوارث ، لأن الذي يوصي أو يكون عليه الدين هو الموروث لا الوارث . ومن فسر قوله : ( وإن كان رجل ) أنه هو الوارث لا الموروث - جعل الفاعل في ( يوصى ) عائدا على ما دل عليه المعنى من الوارث . كما دل المعنى على الفاعل في قوله : ( فلهن ثلثا ما ترك ) لأنه علم أن الموصي والتارك لا يكون إلا الموروث ، لا الوارث . والمراد : غير مضار ورثته بوصيته أو دينه . ووجوه المضارة كثيرة : كأن يوصي بأكثر من الثلث ، أو لوارثه ، أو بالثلث ، أو يحابي به ، أو يهبه ، أو يصرفه إلى وجوه القرب من عتق وشبهه فرارا عن وارث محتاج ، أو يقر بدين ليس عليه . ومشهور مذهب مالك أنه ما دام في الثلث لا يعد مضارا ، وينبغي اعتبار هذا القيد وهو انتفاء الضرر فيما تقدم من ذكر قوله : ( من بعد وصية يوصى بها ( وتوصون ويوصين ) يكون قد حذف مما سبق لدلالة ما بعده عليه ، فلا يختص من حيث المعنى انتفاء الضرر بهذه الآية المتأخرة . قال ابن عباس : الضرار في الوصية من الكبائر ، [ ص: 191 ] ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وعنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة ( من ضار في وصيته ألقاه الله في وادي جهنم ) وقال السدي : نهى الله عن الضرار في الحياة وعند الممات .

قالوا : وانتصاب غير مضار على الحال من الضمير المستكن في يوصى ، والعامل فيهما يوصى . ولا يجوز ما قالوه ؛ لأن فيه فصلا بين العامل والمعمول بأجنبي منهما ، وهو قوله : أو دين ؛ لأن قوله : أو دين معطوف على وصية الموصوفة بالعامل في الحال . ولو كان على ما قالوه من الأعراب لكان التركيب : من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين . وعلى قراءة من قرأ : ( يوصى ) بفتح الصاد مبنيا للمفعول ، لا يصح أن يكون حالا لما ذكرناه ، ولأن المضار لم يذكر ؛ لأنه محذوف قام مقامه المفعول الذي لم يسم فاعله ، ولا يصح وقوع الحال من ذلك المحذوف . لو قلت : ترسل الرياح مبشرا بها بكسر الشين - لم يجز ، وإن كان المعنى : يرسل الله الرياح مبشرا بها . والذي يظهر أنه يقدر له ناصب يدل عليه ما قبله من المعنى ، ويكون عاما لمعنى ما يتسلط على المال بالوصية أو الدين ، وتقديره : يلزم ذلك ماله أو يوجبه فيه غير مضار بورثته بذلك الإلزام أو الإيجاب . وقيل : يضمر ( يوصي ) لدلالة ( يوصى ) عليه ، كقراءة ( يسبح ) بفتح الباء . وقال رجال : أي يسبحه رجال . وانتصاب وصية من الله على أنه مصدر مؤكد ، أي : يوصيكم الله بذلك وصية ، كما انتصب ( فريضة من الله ) .

وقال ابن عطية : هو مصدر في موضع الحال ، والعامل ( يوصيكم ) . وقيل : هو نصب على الخروج من قوله : فلكل واحد منهما السدس أو من قوله : فهم شركاء في الثلث وجوز هو و الزمخشري نصب وصية بـ مضار على سبيل التجوز ؛ لأن المضارة في الحقيقة إنما تقع بالورثة لا بالوصية ، لكنه لما كان الورثة قد وصى الله تعالى بهم صار الضرر الواقع بالورثة كأنه وقع بالوصية . ويؤيد هذا التخريج قراءة الحسن : ( غير مضار وصية ) ، فخفض ( وصية ) بإضافة ( مضار ) إليه ، وهو نظير : يا سارق الليلة ، المعنى : يا سارقي في الليلة ، لكنه اتسع في الفعل ، فعداه إلى الظرف تعديته للمفعول به ، وكذلك التقدير في هذا : غير مضار في وصية من الله ، فاتسع وعدى اسم الفاعل إلى ما يصل إليه بوساطة في تعديته للمفعول به . والله عليم حليم عليم بمن جار أو عدل ، حليم عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة ، قاله الزمخشري . وفيه دسيسة الاعتزال ، أي : أن الجائر وإن لم يعاجله الله بالعقوبة فلا بد له منها . والذي يدل عليه لفظ حليم هو أن لا يؤاخذ بالذنب كما يقوله أهل السنة . وعلى قولهم يكون هذا الوصف يدل على الصفح عنه ألبتة . وحسن ذلك هنا لأنه لما وصف نفسه بقوله : عليم ، ودل على اطلاعه على ما يفعله الموروث في مضارته بورثته في وصيته ودينه ، وأن ذكر علمه بذلك دليل على مجازاته على مضارته ، أعقب ذلك بالصفة الدالة على الصفح عمن شاء ، وذلك على عادة أكثر القرآن بأنه لا يذكر ما يدل على العقاب ، إلا ويردف بما دل على العفو . وانظر إلى حسن هذا التقسيم في الميراث ، وسبب الميراث هو الاتصال بالميت ، فإن كان بغير واسطة فهو النسب أو الزوجية ، أو بواسطة فهو الكلالة . فتقدم الأول على الثاني لأنه ذاتي ، والثاني عرض ، وأخر الكلالة عنهما لأن الاثنين لا يعرض لهما سقوط بالكلية ، ولكون اتصالهما بغير واسطة ، ولأكثرية المخالطة . انتهى ملخصا من كلام الرازي في تفسيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية