الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أتم المثل بمن أساءتا الأدب فلم تنفعهما الوصلة بالأولياء بل زادتهما ضررا للإعراض عن الخير مع قربه وتيسره، وبمن أحسنت الأدب فلم تضرها الوصلة بأعدى الأعداء [ بل -] زادتها خيرا لإحسانها مع قيام المغتر بها عن الإحسان ضرب مثلا بقرينتها في قوله صلى الله عليه وسلم كما رواه الشيخان عن أبي موسى رضي الله عنه: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم [ بنت عمران -] وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام" ومع مقارنتها لها في الكمال، فبين حاليهما في الثيوبة والبكورة طباق، فلم يبتلها سبحانه بخلطه زوج جمعا بين ما تقدم من صنفي الثيبات والأبكار اللاتي يعطيهما لنبيه صلى الله عليه وسلم فأحسنت الأدب في نفسها مع الله ومع سائر من لزمها الأدب [ معه -] من عباده فأحسن إليها رعاية لها [ ص: 213 ] على ما وفقها إليه من الإحسان، وذلك [ رعاية -] لأسلافها إذ كانوا من أعظم الأحباب فقال: ومريم أي وضرب الله مثلا لأهل الانفراد والعزلة من الذين آمنوا مريم ابنت عمران أي أحد الأحباب، وذكر وجه الشبه فقال: التي أحصنت فرجها أي عفت عن السوء وجميع مقدماته عفة كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على [ بكريتها -] إلى الممات فتزوجها في الجنة جزاء لها بخير عبادنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وإمام المرسلين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما اغتنت بأنسها بروح الله الذي بثه في قلبها من محبة الذكر والعبادة عن الأنس بأرواح الناس، كان ذلك سببا لأن وهبها روحا منه جسده في أكمل الصور المقدرة في ذلك الحين فقال مخبرا عن ذلك: فنفخنا أي بعظمتنا بواسطة ملكنا روح القدس.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت هذه السورة لتشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتكميل نسائه في الدنيا والآخرة، نص على المقصود بتذكير الضمير ولم يؤنثه [ قطعا -] للسان من يقول تعنتا: إن المراد نفخ روحها في جسدها: فيه أي فرجها الحقيقي وهو جيبها وكل جيب يسمى فرجا، ويدل على الأول قراءة "فيها" شاذة من روحنا أي روح هو أهل لشرفه بما عظمنا من خلقه [ ولطف -] تكوينه أن يضاف إلينا لكونه خارجا [ ص: 214 ] عن التسبيب المعتاد وهو جبريل عليه الصلاة والسلام أو روح الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: فكان ما أردنا، فحملت من غير ذكر [و -] ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام الذي كان من كلمتنا وهي "احملي" ثم كلمتنا "كن يا حمل من غير ذكر" ثم كلمتنا "لديه يا مريم من غير مساعد" ثم كلمتنا "تكلم عيسى في المهد بالحكمة" عطف عليه قوله: وصدقت فاستحقت لذلك أن تسمى صديقة بكلمات ربها أي المحسن إليها بما تقدم وغيره مما كان من كلام جبريل عليه الصلاة والسلام بسببه ومن عيسى عليه الصلاة والسلام [و -] مما تكلم به عن الله سبحانه وتعالى وكتبه أي وكتابه الضابط الجامع لكلامه أنزل على ولدها وغيره من كتب الله كما دل على ذلك قراءة البصريين وحفص بالجمع.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان المصدق ربما كان تصديقه في الظاهر أو مشوبا بشيء من الضمائر قال: وكانت أي جبلة وطبعا، وشرفها بأن جعلها في رتبة الأكمل وهم الرجال فقال: من القانتين أي المخلصين الذين هم في غاية القوة والكمال لأنها كانت من بنات الأحباب المصطفين على العالمين، فلم تكن عبادتها تقصر عن عبادة الأقوياء الكلمة، وقد أتم سبحانه الأمثال في الآداب بالثيبات والأبكار والأخيار والأشرار، فانعطف آخر السورة على أولها في المعاني بالآداب، وزاد [ ص: 215 ] ذلك حسنا كونها في النساء وفي الذوات والأعيان بزواج النبي صلى الله عليه وسلم لآسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران في الجنة دار القرار السالمة عن الأكدار [ الزواج الأبدي -] فصار أول السورة وآخرها في أزواجه صلى الله عليه وسلم وفي ختامها بالقنوت الذي هو خلاصة الأوصاف الماضية في الأبدال المذكورات أعظم مناسبة - والله الهادي.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية