الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام -

وفي هذه السنة قتل علي في شهر رمضان لسبع عشرة خلت منه ، وقيل : لإحدى [ ص: 737 ] عشرة ، وقيل : لثلاث عشرة بقيت منه ، وقيل : في شهر ربيع الآخر سنة أربعين . والأول أصح .

قال أنس بن مالك : مرض علي فدخلت عليه وعنده أبو بكر وعمر ، فجلست عنده ، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر في وجهه ، فقال له أبو بكر وعمر : يا نبي الله ما نراه إلا ميتا . فقال : " لن يموت هذا الآن ، ولن يموت حتى يملأ غيظا ، ولن يموت إلا مقتولا " .

وقيل من غير وجه : إن عليا كان يقول : ما يمنع أشقاكم أن يخضب هذه من هذه ؟ يعني لحيته من دم رأسه .

وقال عثمان بن المغيرة : كان علي لما دخل رمضان يتعشى ليلة عند الحسن ، وليلة عند الحسين ، وليلة عند أبي جعفر ، لا يزيد على ثلاث لقم ، يقول : ( أحب أن ) يأتيني أمر الله وأنا خميص ، وإنما هي ليلة أو ليلتان ، فلم تمض ليلة حتى قتل .

وقال الحسن بن كثير عن أبيه ، قال : خرج علي من الفجر فأقبل الإوز يصحن في وجهه ، فطردوهن عنه ، فقال : ذروهن فإنهن نوائح ، فضربه ابن ملجم في ليلته .

وقال الحسن بن علي يوم قتل علي : خرجت البارحة وأبي يصلي في مسجد داره ، فقال لي : يا بني إني بت أوقظ أهلي ، لأنها ليلة الجمعة صبيحة بدر ، فملكتني عيناي ، [ ص: 738 ] فنمت ، فسنح لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك من الأود واللدد ؟ قال : والأود العوج ، واللدد الخصومات فقال لي : ادع عليهم . فقلت : اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم ، وأبدلهم بي من هو شر مني ! فجاء ابن النباح فآذنه بالصلاة ، فخرج وخرجت خلفه ، فضربه ابن ملجم فقتله . وكان - عليه السلام - إذا رأى ابن ملجم قال :


أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

وكان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي ، والبرك بن عبد الله التميمي ( الصريمي ، وقيل اسم البرك الحجاج ) ، وعمرو بن بكر التميمي السعدي - وهم من الخوارج - اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس ، وعابوا عمل ولاتهم ثم ذكروا أهل النهر ، فترحموا عليهم ، وقالوا : ما نصنع بالبقاء بعدهم ؟ فلو شرينا أنفسنا ، وقتلنا أئمة الضلالة ، وأرحنا منهم البلاد ! فقال ابن ملجم : أنا أكفيكم عليا ، ( وكان من أهل مصر ) . وقال البرك بن عبد الله : أنا أكفيكم معاوية . وقال عمرو بن بكر : أنا أكفيكم عمرو بن العاص .

فتعاهدوا أن لا ينكص أحدهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه ، وأخذوا سيوفهم فسموها ، واتعدوا لسبع عشرة من رمضان . وقصد كل رجل منهم الجهة التي يريد ، فأتى ابن ملجم الكوفة ، فلقي أصحابه بالكوفة وكتمهم أمره ، ورأى يوما أصحابا له من تيم الرباب ، وكان علي قد قتل منهم يوم النهر عدة ، فتذاكروا قتلى [ ص: 739 ] النهر ، ولقي معهم امرأة من تيم الرباب اسمها قطام ، وقد قتل أبوها وأخوها يوم النهر ، وكانت فائقة الجمال . فلما رآها أخذت قلبه فخطبها . فقالت : لا أتزوجك حتى تشتفي لي . فقال : وما تريدين ؟ قالت : ثلاثة آلاف ، وعبدا وقينة ، وقتل علي . فقال : أما قتل علي فما أراك ذكرته وأنت تريدينني . قالت : بلى ، التمس غرته ، فإن أصبته شفيت نفسك ونفسي ونفعك العيش معي ، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وما فيها . قال : والله ما جاء بي إلا قتل علي ، فلك ما سألت . قالت : سأطلب لك من يشد ظهرك ويساعدك . وبعثت إلى رجل من قومها اسمه وردان وكلمته ، فأجابها ، وأتى ابن ملجم رجلا من أشجع اسمه شبيب بن بجرة فقال له : هل لك في شرف الدنيا والآخرة ؟ قال : وماذا ؟ قال : قتل علي . قال شبيب : ثكلتك أمك ! لقد جئت شيئا إدا ! كيف تقدر على قتله ؟ قال : أكمن له في المسجد ، فإذا خرج إلى الصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه ، فإن نجونا فقد شفينا أنفسنا ، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها . قال : ويحك ! لو كان غير علي كان أهون ، قد عرفت سابقته وفضله وبلاءه في الإسلام ، وما أجدني أنشرح لقتله . قال : أما تعلمه قتل أهل النهر العباد الصالحين ؟ قال : بلى . قال : فنقتله بمن قتل من أصحابنا . فأجابه .

فلما كان ليلة الجمعة ، وهي الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي ، وقتل معاوية وعمرو ، أخذ سيفه ومعه شبيب ووردان ، وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي للصلاة ، فلما خرج علي نادى : أيها الناس الصلاة الصلاة . فضربه شبيب بالسيف ، فوقع سيفه بعضادة الباب ، وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف ، ( وقال : الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك ) ! وهرب وردان فدخل منزله ، فأتاه رجل من أهله ، فأخبره وردان بما كان ، فانصرف عنه وجاء بسيفه فضرب به وردان حتى قتله . [ ص: 740 ] وهرب شبيب في الغلس ، وصاح الناس ، فلحقه رجل من حضرموت يقال له عويمر ، وفي يد شبيب السيف ، فأخذه وجلس عليه ، فلما رأى الحضرمي الناس قد أقبلوا في طلبه وسيف شبيب في يده خشي على نفسه فتركه ونجا ، وهرب شبيب في غمار الناس .

ولما ضرب ابن ملجم عليا قال : لا يفوتنكم الرجل . فشد الناس عليه فأخذوه ، وتأخر علي وقدم جعدة بن هبيرة ، وهو ابن أخته أم هانئ ، يصلي بالناس الغداة ، وقال علي : أحضروا الرجل عندي . فأدخل عليه . فقال : أي عدو الله ! ألم أحسن إليك ؟ قال : بلى . قال : فما حملك على هذا ؟ قال : شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه . فقال علي : لا أراك إلا مقتولا به ، ولا أراك إلا من شر خلق الله . ثم قال : النفس بالنفس ، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني ، وإن بقيت رأيت فيه رأيي ، يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين ، تقولون قد قتل أمير المؤمنين ، ألا لا يقتلن إلا قاتلي ، انظر يا حسن : إن أنا مت من ضربتي هذه ، فاضربه ضربة ، ولا تمثلن بالرجل ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور " .

( هذا كله ) وابن ملجم مكتوف . فقالت له أم كلثوم ابنة علي : أي عدو الله ! لا بأس على أبي ، والله مخزيك ! قال : فعلى من تبكين ؟ والله إن سيفي اشتريته بألف ، وسممته بألف ، ولو كانت هذه الضربة بأهل مصر ما بقي منهم أحد .

ودخل جندب بن عبد الله على علي فقال : إن فقدناك ، ولا نفقدك ، فنبايع الحسن ؟ قال : ما آمركم ولا أنهاكم ، أنتم أبصر . ثم دعا الحسن والحسين فقال لهما : [ ص: 741 ] أوصيكما بتقوى الله ، ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ، ولا تبكيا على شيء زوي عنكما ، وقولا الحق ، وارحما اليتيم ، وأعينا الضائع ، واصنعا للآخرة ، وكونا للظالم خصيما ، وللمظلوم ناصرا ، واعملا بما في كتاب الله ، ولا تأخذكما في الله لومة لائم . ثم نظر إلى محمد ابن الحنفية فقال : هل حفظت ما أوصيت به أخويك ؟ قال : نعم . قال : فإني أوصيك بمثله ، وأوصيك بتوقير أخويك ، لعظيم حقهما عليك ( فاتبع أمرهما ) ولا تقطع أمرا دونهما . ثم قال : أوصيكما به ، فإنه شقيقكما وابن أبيكما ، وقد علمتما أن أباكما كان يحبه . وقال للحسن أوصيك أي بني بتقوى الله ، وإقام الصلاة لوقتها ، وإيتاء الزكاة عند محلها ، وحسن الوضوء ، فإنه لا صلاة إلا بطهور ، وأوصيك بغفر الذنب ، وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، والحلم عن الجاهل ، والتفقه في الدين ، والتثبت في الأمر ، والتعاهد للقرآن ، وحسن الجوار ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، واجتناب الفواحش .

ثم كتب وصيته ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله ، حتى مات - رضي الله عنه وأرضاه - .

وغسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر ، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ، وكبر عليه الحسن سبع تكبيرات .

[ ص: 742 ] فلما قبض بعث الحسن إلى ابن ملجم فأحضره ، فقال للحسن : هل لك في خصلة ؟ إني والله قد أعطيت الله عهدا أن لا أعاهد عهدا إلا وفيت به ، وإني عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية ، أو أموت دونهما ، فإن شئت خليت بيني وبينه ، فلك الله علي إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت أن آتيك حتى أضع يدي في يدك . فقال له الحسن : لا والله حتى تعاين النار . ثم قدمه فقتله ، وأخذه الناس فأدرجوه في بواري وأحرقوه بالنار .

قال عمرو بن الأصم : قلت للحسن بن علي : إن هذه الشيعة تزعم أن عليا مبعوث قبل القيامة ! فقال : كذب والله هؤلاء الشيعة ، لو علمنا أنه مبعوث قبل القيامة ما زوجنا نساءه ، ولا قسمنا ماله . أما قوله : هذه الشيعة ، فلا شك أنه يعني طائفة منها ، فإن كل شيعة لا تقول هذا ، إنما تقوله طائفة يسيرة منهم ، ومن مشهوري هذه الطائفة : جابر بن يزيد الجعفي الكوفي ، وقد انقرض القائلون بهذه المقالة فيما نعلمه .

بجرة : بفتح الباء والجيم . ( والبرك : بضم الباء الموحدة ، وفتح الراء وآخره كاف ) .

وأما البرك بن عبد الله ، فإنه قعد لمعاوية في تلك الليلة التي ضرب فيها علي ، فلما خرج معاوية ليصلي الغداة ، شد عليه بالسيف ، فوقع السيف في أليته ، فأخذ ، فقال : إن عندي خبرا أسرك به ، فإن أخبرتك فنافعي ذلك [ عندك ] ؟ قال : نعم . قال : إن أخا لي قتل عليا هذه الليلة . قال : فلعله لم يقدر على ذلك . قال : بلى ، إن عليا ليس معه أحد يحرسه . فأمر به معاوية فقتل .

وبعث معاوية إلى الساعدي ، وكان طبيبا ، فلما نظر إليه قال : اختر إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف ، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرأ منها ، فإن ضربتك مسمومة . فقال معاوية : أما النار فلا صبر لي عليها ، وأما الولد فإن يزيد [ ص: 743 ] وعبد الله ما تقر به عيني . فسقاه شربة فبرأ ولم يولد له بعدها .

وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات ، وحرس الليل ، وقيام الشرط على رأسه إذا سجد ، وهو أول من عملها في الإسلام . وقيل : إن معاوية لم يقتل البرك ، وإنما أمر فقطعت يده ورجله ، وبقي إلى أن ولي زياد البصرة ، وكان البرك قد صار إليها وولد له ، فقال له زياد : يولد لك ، وتركت أمير المؤمنين لا يولد له ؟ فقتله وصلبه .

وأما عمرو بن بكر ، فإنه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة ، فلم يخرج ، وكان اشتكى بطنه ، فأمر خارجة بن أبي حبيبة - وكان صاحب شرطته ، وهو من بني عامر بن لؤي ، - فخرج ليصلي بالناس ، فشد عليه وهو يرى أنه عمرو بن العاص ، فضربه فقتله ، فأخذه الناس إلى عمرو فسلموا عليه بالإمرة . فقال : من هذا ؟ قالوا : عمرو . قال : فمن قتلت ؟ قالوا : خارجة .

قال : أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك ! فقال عمرو : أردتني وأراد الله خارجة . فقدمه عمرو فقتله .

قال : ولما بلغ عائشة قتل علي قالت :


فألقت عصاها واستقرت بها النوى     كما قر عينا بالإياب المسافر


ثم قالت : من قتله ؟ فقيل : رجل من مراد . فقالت :


فإن يك نائيا فلقد نعاه     نعي ليس في فيه التراب



[ ص: 744 ] فقالت زينب بنت أبي سلمة : أتقولين هذا لعلي ؟ فقالت : إنني أنسى ، فإذا نسيت فذكروني . وقال ابن أبي مياس المرادي :


فنحن ضربنا ، يا لك الخير ،     حيدرا أبا حسن مأمومة فتفطرا
ونحن خلعنا ملكه من نظامه     بضربة سيف إذ علا وتجبرا
ونحن كرام في الصباح أعزة     إذا المرء بالموت ارتدى وتأزرا



وقال أيضا :


ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة     كمهر قطام بين عرب ومعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة     وضرب علي بالحسام المصمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا     ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم



وقال أبو الأسود الدؤلي في قتل علي :


ألا أبلغ معاوية بن حرب     فلا قرت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا     بخير الناس طرا أجمعينا


[ ص: 745 ] قتلتم خير من ركب المطايا     ورحلها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ( ومن حذاها )     ومن قرأ المثاني والمئينا
إذا استقبلت وجه أبي حسين     رأيت البدر راع الناظرينا
لقد علمت قريش حيث كانت     بأنك خيرها حسبا ودينا


( وقال بكر بن حماد التاهرتي :


قل لابن ملجم والأقدار غالبة     هدمت للدين والإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم     وأعظم الناس إسلاما وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما     سن الرسول لنا شرعا وتبيانا
صهر النبي ومولاه وناصره     أضحت مناقبه نورا وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له     مكان هارون من موسى بن عمرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر     فقلت سبحان رب العرش سبحانا


إني لأحسبه ما كان من أنس     كلا ولكنه قد كان شيطانا


[ ص: 746 ] قد كان يخبرهم [ هذا ] بمقتله     قبل المنية أزمانا فأزمانا
فلا عفا الله عنه سوء فعلته     ولا سقى قبر عمران بن حطانا
يا ضربة من شقي ما أراد بها     إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
بل ضربة من غوي أوردته لظى     وسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصدا بضربته     إلا ليصلي عذاب الخلد نيرانا

)

التالي السابق


الخدمات العلمية