الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة التاسعة : اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير ، لا من المغانم .

                                                                                                                                                                                                                                      ودليل ذلك : حديث مالك بن أوس بن الحدثان المتفق عليه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : دخلت على عمر ، فأتاه حاجبه يرفأ ، فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد ؟ قال : نعم ، فأذن لهم ، ثم قال : هل لك في علي ، وعباس ؟ قال : نعم ، قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، قال : أنشدكم بالله ، الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ فقال : الرهط ، قد قال ذلك ، فأقبل على علي ، وعباس ، فقال : هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك ، قال عمر : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فقال عز وجل : وما أفاء الله على رسوله إلى قوله : قدير [ 59 \ 6 ] ، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه ، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، أنشدكم بالله ، هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي ، وعباس : أنشدكما بالله ، هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم ، قال عمر : فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، ثم جئتماني ، وكلمتكما واحدة ، وأمركما جميع : جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إلي اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا لفظ البخاري في " الصحيح " في بعض رواياته ، ومحل الشاهد من الحديث [ ص: 100 ] تصريح عمر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله نفقة سنته من فيء بني النضير ، وتصديق الجماعة المذكورة له في ذلك ، وهذا الحديث مخرج في " الصحيحين " وغيرهما من طرق متعددة بألفاظ متقاربة المعنى ، وهو نص في أن نفقة أهله صلى الله عليه وسلم كانت من الفيء ، لا من الغنيمة .

                                                                                                                                                                                                                                      ويدل له أيضا الحديث المتقدم " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم " ، فإن قيل ما وجه الجمع بين ما ذكرتم ، وبين ما أخرجه أبو داود من طريق أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك ; فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه ، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء : جزئين بين المسلمين ، وجزءا نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب - والله تعالى أعلم - أنه لا تعارض بين الروايتين ; لأن " فدك " ونصيبه صلى الله عليه وسلم من " خيبر " كلاهما فيء كما قدمنا عليه الأدلة الواضحة ، وكذلك " بنو النضير " ، فالجميع فيء كما تقدم إيضاحه ، فحكم الكل واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ، وفدك ، وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به ، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ .

                                                                                                                                                                                                                                      فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي ، وعباس ، وأما خيبر ، وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم . و هذا لفظ البخاري في صحيحه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في " الفتح " : وقد ظهر بهذا أن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير ، وأما سهمه من خيبر ، وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده ، وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر ، وفدك ، وما فضل من ذلك جعله في المصالح ، وعمل عمر بعده بذلك ، فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه ، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم ، قال : جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان ، فقال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم ، ويزوج أيمهم ، [ ص: 101 ] وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى ، وكانت كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر ، ثم أقطعها مروان ؛ يعني في أيام عثمان .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطابي : إنما أقطع عثمان " فدك " لمروان ; لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده ، فاستغنى عثمان عنها بأمواله ، فوصل بها بعض قرابته ، ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الثابت في الصحيح بلفظ : " ما تركت بعد نفقة نسائي ، ومئونة عاملي فهو صدقة " .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن فيء " بني النضير " تدخل فيه أموال " مخيريق " رضي الله عنه ، وكان يهوديا من " بني قينقاع " مقيما في بني النضير ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، قال لليهود : " ألا تنصرون محمدا صلى الله عليه وسلم ، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم " ، فقالوا : اليوم يوم السبت ، فقال : لا سبت ، وأخذ سيفه ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فلما حضره الموت قال : أموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء ، وكان له سبع حوائط ببني النضير وهي " الميثب " ، " والصائفة " ، " والدلال " ، " وحسنى " ، " وبرقة " ، " والأعواف " ، " ومشربة أم إبراهيم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية الزبير بن بكار " الميثر " بدل " الميثب " ، " والمعوان " عوض " الأعواف " وزاد " مشربة أم إبراهيم " الذي يقال له " مهروز " .

                                                                                                                                                                                                                                      وسميت " مشربة أم إبراهيم " ; لأنها كانت تسكنها " مارية " ، قاله بعض أصحاب المغازي ، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي " مخيريق " المذكور من شهداء أحد ، حيث قال في سردهم : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وذو الوصايا الجم للبشير وهو مخيريق بني النضير

                                                                                                                                                                                                                                      ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام التي لها تعلق بهذه الآية الكريمة ، خوف الإطالة المملة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية