الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب غسل المذي والوضوء منه

                                                                                                                                                                                                        266 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن عن علي قال كنت رجلا مذاء فأمرت رجلا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته فسأل فقال توضأ واغسل ذكرك

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب غسل المذي والوضوء منه ) أي بسببه وفي المذي لغات أفصحها بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء ثم بكسر الذال وتشديد الياء وهو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته وقد لا يحس بخروجه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا أبو الوليد ) هو الطيالسي .

                                                                                                                                                                                                        ) قوله : ( عن أبي عبد الرحمن ) هو السلمي .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 452 ] قوله : ( مذاء ) صيغة مبالغة من المذي يقال مذى يمذي مثل مضى يمضي ثلاثيا ويقال أيضا أمذى يمذي بوزن أعطى يعطي رباعيا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأمرت رجلا ) هو المقداد بن الأسود كما تقدم في باب الوضوء من المخرجين من وجه آخر وزاد فيه " فاستحييت أن أسأل " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لمكان ابنته ) في رواية مسلم من طريق ابن الحنفية عن علي " من أجل فاطمة " رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( توضأ ) هذا الأمر بلفظ الإفراد يشعر بأن المقداد سأل لنفسه ويحتمل أن يكون سأل لمبهم أو لعلي فوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطاب إليه .

                                                                                                                                                                                                        والظاهر أن عليا كان حاضر السؤال فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي ولو حملوه على أنه لم يحضر لأوردوه في مسند المقداد . ويؤيده ما في رواية النسائي من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي حصين في هذا الحديث عن علي قال " فقلت لرجل جالس إلى جنبي سله فسأله " ووقع في رواية مسلم " فقال : يغسل ذكره ويتوضأ " بلفظ الغائب فيحتمل أن يكون سؤال المقداد وقع على الإبهام وهو الأظهر ففي مسلم أيضا " فسأله عن المذي يخرج من الإنسان " وفي الموطأ نحوه ووقع في رواية لأبي داود والنسائي وابن خزيمة ذكر سبب ذلك من طريق حصين بن قبيصة عن علي قال " كنت رجلا مذاء فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تفعل " ولأبي داود وابن خزيمة من حديث سهل بن حنيف أنه وقع له نحو ذلك وأنه سأل عن ذلك بنفسه ووقع في رواية للنسائي أن عليا قال " أمرت عمارا أن يسأل " وفي رواية لابن حبان والإسماعيلي أن عليا قال " سألت " . وجمع ابن حبان بين هذا الاختلاف بأن عليا أمر عمارا أن يسأل ثم أمر المقداد بذلك ثم سأل بنفسه ، وهو جمع جيد إلا بالنسبة إلى آخره ; لكونه مغايرا لقوله إنه استحيى من السؤال بنفسه لأجل فاطمة فيتعين حمله على المجاز بأن بعض الرواة أطلق أنه سأل لكونه الآمر بذلك وبهذا جزم الإسماعيلي ثم النووي ويؤيد أنه أمر كلا من المقداد وعمار بالسؤال عن ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عائش بن أنس قال " تذاكر علي والمقداد وعمار المذي فقال علي : إنني رجل مذاء فاسألا عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله أحد الرجلين " وصحح ابن بشكوال أن الذي تولى السؤال عن ذلك هو المقداد وعلى هذا فنسبة عمار إلى أنه سأل عن ذلك محمولة على المجاز أيضا ; لكونه قصده لكن تولى المقداد الخطاب دونه والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - " توضأ " على أن الغسل لا يجب بخروج المذي وصرح بذلك في رواية لأبي داود وغيره وهو إجماع وعلى أن الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول كما تقدم استدلال المصنف به في باب : من لم ير الوضوء إلا من المخرجين وحكى الطحاوي عن قوم أنهم قالوا بوجوب الوضوء بمجرد خروجه ثم رد عليهم بما رواه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي فقال فيه الوضوء وفي المني الغسل فعرف بهذا أن حكم المذي حكم البول وغيره من نواقض الوضوء لا أنه يوجب الوضوء بمجرده .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( واغسل ذكرك ) هكذا وقع في البخاري تقديم الأمر بالوضوء على غسله ووقع في العمدة نسبة ذلك إلى البخاري بالعكس لكن الواو لا ترتب فالمعنى واحد وهي رواية الإسماعيلي فيجوز تقديم غسله على الوضوء وهو أولى ويجوز تقديم الوضوء على غسله لكن من يقول بنقض الوضوء بمسه يشترط [ ص: 453 ] أن يكون ذلك بحائل واستدل به ابن دقيق العيد على تعين الماء فيه دون الأحجار ونحوها ; لأن ظاهره يعين الغسل ، والمعين لا يقع الامتثال إلا به وهذا ما صححه النووي في شرح مسلم وصحح في باقي كتبه جواز الاقتصار إلحاقا بالبول [1] وحملا للأمر بغسله على الاستحباب أو على أنه خرج مخرج الغالب ، وهذا المعروف في المذهب واستدل به بعض المالكية والحنابلة على إيجاب استيعابه بالغسل عملا بالحقيقة لكن الجمهور نظروا إلى المعنى فإن الموجب لغسله إنما هو خروج الخارج فلا تجب المجاوزة إلى غير محله ويؤيده ما عند الإسماعيلي في رواية فقال توضأ واغسله فأعاد الضمير على المذي ونظير هذا قوله من مس ذكره فليتوضأ فإن النقض لا يتوقف على مس جميعه واختلف القائلون بوجوب غسل جميعه هل هو معقول المعنى أو للتعبد ؟ فعلى الثاني تجب النية فيه قال الطحاوي : لم يكن الأمر بغسله لوجوب غسله كله بل ليتقلص فيبطل خروجه كما في الضرع إذا غسل بالماء البارد يتفرق لبنه إلى داخل الضرع فينقطع بخروجه واستدل به أيضا على نجاسة المذي وهو ظاهر .

                                                                                                                                                                                                        وخرج ابن عقيل الحنبلي من قول بعضهم : إن المذي من أجزاء المني رواية بطهارته ، وتعقب بأنه لو كان منيا لوجب الغسل منه واستدل به على وجوب الوضوء على من به سلس المذي ; للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة مع صحة الجسد بخلاف صاحب السلس فإنه ينشأ عن علة في الجسد ويمكن أن يقال : أمر الشارع بالوضوء منه ولم يستفصل فدل على عموم الحكم واستدل به على قبول خبر الواحد وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع وفيهما نظر لما قدمناه من أن السؤال كان بحضرة علي ثم لو صح أن السؤال كان في غيبته لم يكن دليلا على المدعى لاحتمال وجود القرائن التي تحف الخبر فترقيه عن الظن إلى القطع قاله القاضي عياض .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن دقيق العيد : المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد أنه صورة من الصور التي تدل وهي كثيرة تقوم الحجة بجملتها لا بفرد معين منها . وفيه جواز الاستنابة في الاستفتاء وقد يؤخذ منه جواز دعوى الوكيل بحضرة موكله وفيه ما كان الصحابة عليه من حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره . وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يستحى منه عرفا . وحسن المعاشرة مع الأصهار . وترك ذكر ما يتعلق بجماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها وقد تقدم استدلال المصنف به في العلم لمن استحيى فأمر غيره بالسؤال ; لأن فيه جمعا بين المصلحتين : استعمال الحياء وعدم التفريط في معرفة الحكم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية