الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 510 ] فصل

[ الجناية على الأطراف ]

ولا يجري القصاص في الأطراف إلا بين مستوي الدية إذا قطعت من المفصل وتماثلت ولا قصاص في اللسان ولا في الذكر ولا أن تقطع الحشفة ، ولا قصاص في عظم إلا السن ، فإن قلع يقلع ، وإن كسر يبرد بقدره ، ولا قصاص في العين إلا أن يذهب ضوءها وهي قائمة بأن يوضع على وجهه قطن رطب وتقابل عينه بالمرآة المحماة حتى يذهب ضوءها ، ولا تقطع الأيدي باليد وتجب الدية ، ومن قطع يميني رجلين قطعا يمينه وأخذا منه دية الأخرى بينهما ، فإن قطعها أحدهما مع غيبة الآخر فللآخر دية يده ، وإذا كان القاطع أشل أو ناقص الأصابع ، فالمقطوع إن شاء قطع المعيبة ، وإن شاء أخذ دية يده ، وكذلك لو كان رأس الشاج أصغر ، ولو كان رأس الشاج أكبر فالمشجوج إن شاء أخذ بقدر شجته ، وإن شاء أخذ أرشها ، ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل البرء أو خطأ بعده ، أو قطع يده عمدا ثم قتله خطأ أو عمدا بعد البرء أخذ بالأمرين ، ومن قطع يد غيره فعفا عن القطع ثم مات فعلى القاطع الدية في ماله ، ولو عفا عن القطع وما يحدث منه فهو عفو عن النفس ، والشجة كالقطع ( سم ) وإذا حضر أحد الوليين وأقام البينة على القتل ثم حضر الآخر فإنه يعيد ( سم ) البينة . رجلان أقر كل واحد منهما بالقتل فقال الولي : قتلتماه فله قتلهما ، ولو كان مكان الإقرار شهادة فهو باطل ، ولو رمى مسلما فارتد والعياذ بالله ، ثم وقع السهم به ففيه الدية ( سم ) ، ولو كان مرتدا فأسلم لا شيء فيه ، ولو رمى عبدا فأعتقه مولاه ففيه القيمة ( م ) .

التالي السابق


فصل

[ القصاص في الأطراف ]

( ولا يجري القصاص في الأطراف إلا بين مستوي الدية إذا قطعت من المفصل وتماثلت ) والأصل فيه قوله - تعالى - : ( والجروح قصاص ) وأنه يقتضي المماثلة ، ولأن الأطراف يسلك [ ص: 511 ] بها مسلك الأموال ، ولهذا لا يقطع الصحيح بالأشل والكامل بالناقصة الأصابع لاختلافهما في القيمة ، بخلاف النفس على ما مر . وإذا كان كذلك تنتفي المماثلة بانتفاء المساواة في المالية ، والمالية معلومة بتقدير الشرع فأمكن اعتبار التساوي فيها ، ولا يمكن التساوي في القطع إلا إذا كان من المفصل . إذا ثبت هذا فنقول : لا يجري القصاص في الأطراف بين الرجل والمرأة ، ولا بين الحر والعبد لاختلافهما في القيمة وهي الدية ، ولا بين العبيد لأنهم إن تفاوتت قيمتهم فظاهر ، وإن تساوت فذلك مبني على الحزر والظن فلا يثبت به القصاص . ونص محمد على جريان القصاص بين الرجل والمرأة في الشجاج التي يجري فيها القصاص ; لأنه ليس في الشجاج تفويت منفعة وإنما هو إلحاق شين وقد استويا فيه ، وفي الطرف تفويت المنفعة وقد اختلفا فيها ، ويجري بين المسلم والذمي لتساويهما في الدية . ثم النقصان نوعان : نقص مشاهد كالشلل فيمنع من استيفاء الكامل بالناقص ، ولا يمنع من استيفاء الناقص بالكامل . ونقص من طريق الحكم كاليمين مع اليسار ، فيمنع استيفاء كل واحد من الطرفين بالآخر . وكذا الأصابع لا يقطع إلا بمثلها اليمين باليمين واليسار باليسار ، وكذا العين اليمين باليمين واليسار باليسار ، والناب بالناب ، والثنية بالثنية ، والضرس بالضرس ، ولا يؤخذ الأعلى بالأسفل ; لأن القصاص ينبئ عن المساواة ولا مساواة إلا بالتساوي في المنفعة والقيمة والعضو ، وقس على هذا أمثاله ، فإذا قطع يده غيره من المفصل قطعت يده لما مر ، ولا معتبر بكبر اليد وصغرها لأن منفعة اليد لا تختلف بذلك وكذلك كل عضو يقطع من المفصل كالرجل ومارن الأنف وهو ما لان منه ، والأذن بالأذن لإمكان المماثلة بينهما في القطع ، قال الله - تعالى - : ( والأنف بالأنف والأذن بالأذن ) .

قال : ( ولا قصاص في اللسان ولا في الذكر إلا أن تقطع الحشفة ) ; لأن كل واحد منهما ينقبض وينبسط فلا يمكن المماثلة بينهما في القطع فلا قصاص ، بخلاف ما إذا قطع الحشفة فإنه معلوم كالمفصل ، ولو قطع بعضها وبعض الذكر فلا قصاص لتعذر المساواة . أما الأذن لا تنقبض فيمكن المماثلة سواء قطعها أو بعضها . وأما الشفة إن قطعها جميعها وجب القصاص لإمكان المساواة ، وإن قطع بعضها لا قصاص لتعذرها .

قال : ( ولا قصاص في عظم إلا السن ) روي ذلك عن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - [ ص: 512 ] ولأن المماثلة متعذرة فيما سواه من العظام ; لأنه إذا كسر موضع ينكسر موضع آخر لأنه أجوف كالقارورة ممكنة في السن ، قال - تعالى - : ( والسن بالسن ) .

( فإن قلع يقلع ) سنه .

( وإن كسر يبرد بقدره ) تحقيقا للمساواة ، حتى لو كان السن بحال لا يمكن برده لا قصاص ، وتجب الدية في ماله ، ولا اعتبار بالكبر والصغر لاستوائهما في المنفعة .

قال : ( ولا قصاص في العين ) لتعذر المساواة .

( إلا أن يذهب ضوءها وهي قائمة ) فيمكن القصاص .

( بأن يوضع على وجهه قطن رطب وتقابل عينه بالمرآة المحماة حتى يذهب ضوءها ) ، روي ذلك عن علي - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة ; لأنه طريق إلى استيفاء القصاص فيسلك . وعن أبي يوسف : لا قصاص في الأحول لأنه نقص في العين كالشلل في اليد .

قال : ( ولا تقطع الأيدي باليد ) وقد بيناه .

( وتجب الدية ) لأنه متى تعذر القصاص تجب الدية لئلا تخلو الجناية عن موجب .

قال : ( ومن قطع يميني رجلين قطعا يمينه وأخذا منه دية الأخرى بينهما ) لأنهما استويا في سبب الاستحقاق كالغرماء في التركة .

( فإن قطعها أحدهما مع غيبة الآخر فللآخر دية يده ) لأن الحاضر استوفى حقه وبقي حق الغائب وتعذر استيفاء القصاص فيصار إلى الدية .

قال : ( وإذا كان القاطع أشل أو ناقص الأصابع ، فالمقطوع إن شاء قطع المعيبة ، وإن شاء [ ص: 513 ] أخذ دية يده ) لأنه تعذر استيفاء حقه كاملا ، فإن رضي بدون حقه أخذه ولا شيء له غيره ، وإن شاء أخذ العوض وهو الأرش ، كمن غصب مثليا فأتلفه ثم انقطع عن أيدي الناس ، فللمالك أن يأخذ القيمة كذا هذا ، ولو سقطت اليد المعيبة أو قطعت ظلما فلا شيء عليه لتعين حقه في القصاص ، وإنما يصير مالا باختياره فيسقط بفوات محله ، ولو قطعت في قصاص أو سرقة فعليه الأرش لأنه أوفى بها حقا مستحقا عليه فهي سالمة له معنى .

( وكذلك لو كان رأس الشاج أصغر ) لأنه تعذر استيفاء حقه كاملا لأنه إن أخذ بقدر شجته مساحة يتعدى إلى غير حقه ; لأنه إذا شج ما بين قرنيه وما بين قرني الشاج أقل مساحة ، فإذا استوفى مقدار شجته وهو إنما يستحق ما بين قرنيه فقد تعدى إلى غير حقه فيتخير كما قلنا .

( ولو كان رأس الشاج أكبر فالمشجوج إن شاء أخذ بقدر شجته ، وإن شاء أخذ أرشها ) ; لأنه لو أخذ ما بين قرني الشاج يزداد شين الشاج بطول الشجة ، وليس له ذلك فيتخير لما مر ، وكذلك إذا استوعبت الشجة من جبهته إلى قفاه ، ولا يبلغ قفا الشاج يخير كما قلنا .

قال : ( ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل البرء أو خطأ بعده ، أو قطع يده عمدا ثم قتله خطأ أو عمدا بعد البرء أخذ بالأمرين ) والأصل فيه أنه متى أمكن الجمع بين الجراحات تجمع ; لأن القتل غالبا إنما يقع بجراحات متعاقبة ، فلو اعتبرنا كل جراحة على حدة أدى إلى الحرج ، وإذا لم يمكن يعطى كل جراحة حكمها ، وفي هذه المسائل تعذر الجمع .

أما الأول فلتغاير الفعلين وتغاير حكمهما ، وكذلك الثالثة . وأما الثانية والرابعة فلتخلل البرء بينهما وأنه قاطع للسراية حتى لو لم يتخلل بينهما برء يجمع بينهما ويكتفى بدية واحدة في الخطأين ، وكذلك عندهما في العمدين بأن قطع يده عمدا ، ثم قتله عمدا قبل البرء يجمع بينهما ويقتل ولا يقطع ; لأن الفعل متحد ولم يتخلل البرء فيجمع بينهما كما في الخطأ .

وقال أبو حنيفة : إن شاء الإمام قال لهم : اقطعوه ثم اقتلوه ، وإن شاء قال لهم : اقتلوه ; لأن الجمع متعذر لأن الواجب القود وهو يعتمد المساواة وذلك بأن يكون القطع بالقطع والقتل بالقتل فتعذر الجمع ، أو لأن القتل يمنع إضافة السراية إلى القطع ، ألا ترى أنهما لو وجدا من شخصين يجب القصاص على القاتل فصار كما إذا تخلل البرء ، بخلاف ما إذا سرى القطع لأن [ ص: 514 ] الفعل واحد ، وبخلاف الخطأين لأن الواجب الدية ولا يعتبر فيها المساواة .

قال : ( ومن قطع يد غيره فعفا عن القطع ثم مات فعلى القاطع الدية في ماله ، ولو عفا عن القطع وما يحدث منه فهو عفو عن النفس ، والشجة كالقطع ) .

وقالا : هو عفو عن النفس في المسألتين جميعا ; لأن العفو عن القطع أو عن الشجة عفو عن موجبه ، وموجبه القطع لو برأ ، والقتل لو سرى ، فكان عفوا عن أيهما تحقق وصار كما إذا عفا عن الجناية ، فإنه يتناول الجناية المقتصرة والسارية كذا هذا .

ولأبي حنيفة أنه قتل نفسا معصومة عمدا ، فيجب القصاص قياسا ، والعفو وقع عن القطع لا عن القتل ، إلا أنا استحسنا وقلنا تجب الدية في ماله لوجود صورة العفو ، وذلك يوجب شبهة وهي دارئة للقصاص ، بخلاف العفو عن الجناية لأنه يعم اسم جنس ، وبخلاف قوله وما يحدث منه لأنه صريح في العفو عن القتل ، ثم إن كان خطأ يعتبر عفوه من الثلث لأن موجبه المال وحق الورثة متعلق بالمال ، وإن كان عمدا فمن جميع المال ; لأن موجبه القصاص ولم يتعلق به حق الورثة لأنه ليس بمال .

قال : ( وإذا حضر أحد الوليين وأقام البينة على القتل ثم حضر الآخر فإنه يعيد البينة ) وقالا : لا إعادة عليه ولو كان القتل خطأ لا يعيدها بالإجماع ، وأجمعوا أن الحاضر لا يقتص حتى يحضر الغائب لاحتمال العفو . لهما أن القصاص حق الميت بدليل صحة عفوه حالة حياته بعد الجرح ، ولو انقلب مالا يقضى منه ديونه وتنفذ وصاياه ويورث عنه فيقوم الواحد مقام الجميع في إقامة البينة .

ولأبي حنيفة أن القصاص حق المقتول من وجه لما قالا ، وحق الورثة من وجه ، فإن الوارث لو عفا عن الجارح حال حياة المجروح صح عفوه ، ولو لم يكن حقه لما صح كإبراء الغريم فكان الاحتياط في الإعادة ، بخلاف الخطأ لأن الواجب المال وهو حق المقتول من كل وجه لأنه يصرف في حوائجه أولا ، وليس مبناه على التغليظ حتى يثبت بشهادة النساء مع الرجال وبالشهادة على الشهادة ولا كذلك العمد .

[ ص: 515 ] قال : ( رجلان أقر كل واحد منهما بالقتل فقال الولي قتلتماه فله قتلهما ، ولو كان مكان الإقرار شهادة فهو باطل ) وهو أن يشهد شاهدان أن زيدا قتله وآخران أن عمرا قتله ، فقال الولي : قتلاه ، والفرق أنه كذب الشهود حيث قال قتلاه ، وكذب المقرين حيث قال قتلتماه ، وتكذيب الشهود تفسيق لهم ، والفسق يمنع قبوله الشهادة ، وتكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يبطل إقراره في الباقي فافترقا .

قال : ( ولو رمى مسلما فارتد والعياذ بالله ، ثم وقع السهم به ففيه الدية ، ولو كان مرتدا فأسلم لا شيء فيه ، ولو رمى عبدا فأعتقه مولاه ففيه القيمة ) أما الأولى فمذهبه ، وقالا : لا شيء فيه لأنهما يعتبران حالة الإصابة لأنها حالة التلف الموجبة للعقوبة ، وحالة التلف أسقط عصمة نفسه بالردة ، فكأنه أبرأ الرامي فصار كما إذا أبرأه بعد الجرح قبل الموت ، وله أنه صار قاتلا برميه وأنه متقوم معصوم عند الرمي لوجوده قبل الردة . وقضيته وجوب القصاص إلا أن باعتبار حالة القتل أورث شبهة لردته فسقط القصاص فتجب الدية .

فأبو حنيفة يعتبر حالة الرمي ، ألا ترى أنه لو رمى إلى صيد ثم ارتد ثم وقع به السهم حل ، وكذا إذا رمى إلى صيد ثم مات ثم أصابه حل ويكون له ، ولو كفر بعد الرمي قبل الإصابة أجزأ عنه ، وذلك دليل أن المعتبر حالة الرمي . وأما المسألة الثانية فبالإجماع لأن الرمي ما وقع سببا للضمان لأن المرمي غير متقوم فلا ينقلب سببا بعد ذلك ، وعلى هذا إذا رمى حربيا فأسلم ثم وقع به السهم لا شيء عليه لما قلناه . وأما المسألة الثالثة فقول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد : يجب فصل ما بين قيمته مرميا إلى غير مرمي ; لأن العتق قاطع للسراية فبقي الرمي جناية ينتقص بها قيمة المرمي إليه فيجب النقصان . ولهما ما بينا أن المعتبر حالة الرمي فيصير قاتلا من وقت الرمي وهو مملوك فتجب قيمته ، وهذا بخلاف ما إذا قطع طرف عبد ثم أعتقه مولاه ثم مات العبد يجب عليه أرش اليد مع النقصان الذي نقصه القطع إلى أن عتق ، ولا يجب عليه قيمة النفس لأنه أتلف بعض المحل وأنه يوجب الضمان للمولى ، ولو وجب بعد السراية شيء لوجب للعبد ، فتصير نهاية الجناية مخالفة لابتدائها ، وهنا الرمي قبل الإصابة لا يجب به الضمان لأنه ليس بإتلاف وإنما تقل به الرغبات فلا تختلف نهايته وبدايته .




الخدمات العلمية