الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : يا يحيى هاهنا حذف ، وتقديره : وقال الله للمولود يا يحيى ، أو فولد له مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه ، فقلنا له : يا يحيى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : المعنى فوهبنا له وقلنا له : يا يحيى .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالكتاب التوراة ؛ لأنه المعهود حينئذ ، ويحتمل أن يكون كتابا مختصا به وإن كنا لا نعرفه الآن ، والمراد بالأخذ إما الأخذ الحسي أو الأخذ من حيث المعنى ، وهو القيام بما فيه كما ينبغي ، وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به ، والإحجام عن المنهي عنه ، ثم أكده بقوله : بقوة أي : بجد وعزيمة واجتهاد وآتيناه الحكم صبيا المراد بالحكم الحكمة ، وهي الفهم للكتاب الذي أمر بأخذه وفهم الأحكام الدينية ، وقيل : هي العلم وحفظه والعمل به ، وقيل : النبوة ، وقيل : العقل ، ولا مانع من أن يكون الحكم صالحا لحمله على جميع ما ذكر . قيل : كان يحيى عند هذا الخطاب له ابن سنتين ، وقيل : ابن ثلاث .

                                                                                                                                                                                                                                      وحنانا من لدنا معطوف على الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال جمهور المفسرين : الحنان الرحمة والشفقة والعطف والمحبة ، وأصله توقان النفس ، مأخوذ من حنين الناقة على ولدها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو عبيدة : تقول : حنانك يا رب وحنانيك يا رب . بمعنى واحد ، يريد رحمتك . قال طرفة :

                                                                                                                                                                                                                                      أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض

                                                                                                                                                                                                                                      وقال امرؤ القيس :

                                                                                                                                                                                                                                      ويمنحها بنو سلخ بن بكر     معيزهم حنانك ذا الحنان

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأعرابي : الحنان مشددا من صفات الله عز وجل ، والحنان مخففا : العطف والرحمة ، والحنان الرزق والبركة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن عطية : والحنان في كلام العرب أيضا ما عظم من الأمور في ذات الله ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل ، والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا ، يعني بلالا لما مر به وهو يعذب ، وقيل : إن القائل لذلك هو ورقة بن نوفل .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الأزهري : معنى ذلك : لأترحمن عليه ، ولأتعطفن عليه ؛ لأنه من أهل الجنة ، ومثله قول الحطيئة :

                                                                                                                                                                                                                                      تحنن علي هداك المليك     فإن لكل مقام مقالا

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى من لدنا من جانبنا ، قيل : ويجوز أن يكون المعنى : أعطيناه رحمة من لدنا كائنة في قلبه يتحنن بها على الناس ، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر وزكاة معطوف على من قبله ، والزكاة التطهير والبركة والتنمية والبر . أي : جعلناه مباركا للناس يهديهم إلى الخير ، وقيل : زكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود ، وقيل : صدقة تصدقنا به على أبويه قاله ابن قتيبة وكان تقيا [ ص: 885 ] أي : متجنبا لمعاصي الله مطيعا له . وقد روي أنه لم يعمل معصية قط . وبرا بوالديه معطوف على ( تقيا ) ، البر هنا بمعنى البار ، فعل بمعنى فاعل ، والمعنى : لطيفا بهما محسنا إليهما ولم يكن جبارا عصيا أي : لم يكن متكبرا ولا عاصيا لوالديه أو لربه ، وهذا وصف له عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح .

                                                                                                                                                                                                                                      وسلام عليه قال ابن جرير وغيره : معناه : أمان عليه من الله . قال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف وأنبه من الأمان ؛ لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه ، وهو أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن يسلم الله عليه ، ومعنى يوم ولد أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك اليوم ، أو أن الله حياه في ذلك اليوم ، وهكذا معنى يوم يموت وهكذا معنى ويوم يبعث حيا قيل : أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن : يوم ولد ؛ لأنه خرج مما كان فيه ، ويوم يموت ؛ لأنه يرى قوما لم يكن قد عرفهم ، وأحكاما ليس له بها عهد . ويوم يبعث ؛ لأنه يرى هول يوم القيامة . فخص الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : يايحيى خذ الكتاب بقوة قال : بجد وآتيناه الحكم صبيا قال : الفهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : يقول : اعمل بما فيه من فرائض . وأخرج ابن المنذر ، عن مالك بن دينار قال : اللب . وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن مردويه ، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله : وآتيناه الحكم صبيا قال : أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم ، عن قتادة : بدلة وهو ابن ثلاث سنين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم في تاريخه من طريق نهشل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : قال الغلمان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال يحيى : ما للعب خلقنا ، اذهبوا نصلي فهو قول الله وآتيناه الحكم صبيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من قرأ القرآن قبل أن يحتلم فهو ممن أوتي الحكم صبيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس موقوفا . وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : وحنانا قال : لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف على عبده بالرحمة ، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : وزكاة قال : بركة ، وفي قوله : وكان تقيا قال : طهر فلم يعمل بذنب .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية