الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل قال الأستاذ الإمام بعد ما تقدم آنفا : وكذلك أمر الله من يحكم بين الناس أن يحكم بالعدل ، والحكم بين الناس له طرق : منها الولاية العامة والقضاء ، ومنها تحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة ، فكل من يحكم يجب عليه أن يعدل ، وقد أمر الله بالعدل في آيات أخرى كقوله : إن الله يأمر بالعدل ( 16 : 90 ) ، الآية ، وقوله : اعدلوا هو أقرب للتقوى ( 5 : 8 ) ، وقوله : كونوا قوامين بالقسط ( 4 : 135 ) ، ونهى عن الظلم وأوعد عليه في آيات كثيرة ، ولم يذكر لنا حد العدل ولا تفسيره ولم يرد في السنة تفسير له أيضا ، والعدل وقف على أمرين :

                          أحدهما : أن يعلم الحاكم الحكم الذي شرعه الله ليكون الفصل بين الناس به ، مثال ذلك قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ( 5 : 1 ) ، فهو يوجب علينا أن نوفي بما نتعاقد عليه ، وقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( 2 : 188 ) ، الآية ، وهو قد حرم أكل أموال الناس ورشوة الحكام ، وكذلك ما ورد في السنة المتواترة من أحكامه وقضائه صلى الله عليه وآله وسلم ، فيجب على الحاكم تطبيق أحكامه على ما علم من حكم الله ورسوله ، وقد يكون التطبيق ظاهرا ، وقد يحتاج فيه إلى قياس واستنباط وإجهاد للفكر ، فهذا النوع من العدل معروف عند الناس وإنما يذكر لتنبيه الناس وتذكيرهم .

                          والركن الثاني للعدل - هكذا عبر تارة بالنوع وتارة بالركن - يتألف من أمرين :

                          ( أحدهما ) : فهم الدعوى من المدعي والجواب من المدعى عليه ليعرف موضع ما به التنازع [ ص: 140 ] والتخاصم بأدلته من الخصمين .

                          ( ثانيهما ) : استقامة الحاكم وخلوه من الميل إلى أحد الخصمين ، ومن الهوى بأن يكره أحد الخصمين ، وإن كان لا يميل إلى الآخر ، وهذا المعنى معروف للناس أيضا ، فكل من ركني العدل معروف ، ولذلك ذكر الله العدل ولم يفسره ; لأنه معروف بنفسه كالنور .

                          ولك ـ وقد فهمت ما قلناه ـ أن نقول : العدل عبارة عن إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه ، ولا يتحقق ذلك إلا بإقامة الركنين اللذين بيناهما فكل ما خرج عنهما فهو ظلم ، فإذا أخر القاضي النظر في القضية اتباعا لرسوم وعادات لا يتوقف عليها إقامة العدل ، أو لم يقبل الشهادة ؛ لأنها لم تؤد بألفاظ مخصوصة ، وإن تبين بها الحق المراد ، أو أخر الحكم بعد انتهاء المحاكمة ، واستيفاء أسبابها هل يكون مقيما للعدل ؟ ( قال الأستاذ : هذا في الدرس فضج الحاضرون بقول : لا لا ) إذا علمنا هذا وتأملنا في الأحكام التي تجري عندنا اليوم فهل نراها جارية على أصول العدل ( قالوا : لا لا ) .

                          نجد محاكمنا الشرعية تشترط في توجيه الدعوى ، وفي شهادة الشهود شروطا وألفاظا معينة كلفظ : أشهد ، ولفظ هذا أو المذكور وتبيين النقد وذكر البلد الذي ضرب فيه وإن كان ذلك مفهوما من الكلام لا يختلف في فهمه القاضي ولا الخصم ، فهذه الاصطلاحات كثيرا ما تحول دون العدل إذ ترد الدعوى من أصلها أو الشهادة لعدم موافقتها للألفاظ المصطلح عليها وإن أدت معناها ، وكذلك كل ما يحول بين الناس وفهم الشريعة يكون من أسباب إضاعة العدل ، ولا عذر للناس بالجهل إذ يجب عليهم فهم الشريعة وإزالة كل ما يحول دون فهمها من الاصطلاحات ، ولو كنا نقيم العدل لما كنا في هذه الحالة من الضعف وسوء الحال .

                          ثم قال الأستاذ في درس آخر : إنه اطلع بعد الدرس الأول ـ الذي لخصناه بما رأيت ـ على كتاب السياسة الشرعية لابن تيمية ، فإذا هو كله مبني على هذه الآية ، فإنه توسع في ذكر أنواع الأمانة التي أودعها الله في أيدي الحكام ، ومنها ألا يولوا الأمور إلا خيار الناس الصالحين لها ، وأورد في ذلك أحاديث كثيرة منها الحديث المشهور ـ أي برواية البخاري له ـ " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة " ، أي : ساعة قيامة الأمة وهلاكها ; لأن لكل أمة ساعة ، أي : وقتا تهلك فيه أو يذهب استقلالها .

                          أقول : إن معنى الآية لم يتجل تمام التجلي فيما ذكرناه ، فلا بد من زيادة البيان ونفصله في مسائل .

                          المسألة الأولى : في معنى الأمانة :

                          الأمانة ما يؤمن عليه الإنسان من الأمن وهو طمأنينة النفس ، وعدم الخوف يقال : أمنته ـ كسمعته ـ على الشيء : هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه ( 12 : 64 ) ، [ ص: 141 ] ويقال : أمنها بكذا ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ( 3 : 75 ) ، ويقال : ائتمن فلانا ، أي : عده أو اتخذه أمينا ، وائتمنه على الشيء كأمنه عليه فليؤد الذي اؤتمن أمانته ( 2 : 283 ) ، وكل أمانة يجب حفظها ، ومنها ما يحفظ فقط كالسر ، وفي الحديث المرفوع : إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والضياء عن جابر ، وأبو يعلى في مسنده عن أنس ، وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته ، ومنه يعلم أن كل ما يدل على الائتمان من قول وعمل ، وعرف وقرينة يجب اعتباره والعمل به ، وتقدم تصريح الأستاذ الإمام بذلك ، ومنها ، أي ـ الأمانة ـ ما يحفظ ليؤدى إلى صاحبه سواء كان هو الذي ائتمنك عليه أو غيره لأجله ، ويسمى ما يحفظ الأمانة ويؤديها حفيظا وأمينا ووفيا ، ويسمى من لا يحفظها أو لا يؤديها خائنا يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ( 8 : 27 ) ، فمن خان عالما كان من العصاة ، ووجب عليه الضمان .

                          المسألة الثانية : في معنى العدل :

                          العدل ـ بالفتح والكسر ـ المثل ، والعديل : المثيل قاله ابن الأثير وغيره ، قال في لسان العرب : وفلان يعدل فلانا أي يساويه ، ويقال ما يعدلك عندنا شيء ، أي : ما يقع عندنا شيء موقعك ، وعدل المكاييل والموازين سواها ، وعدل الشيء يعدله عدلا وعادله وازنه ، وعادلت بين الشيئين وعدلت فلانا بفلان إذا سويت بينهما ، وتعديل الشيء تقويمه ، وقيل : العدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه تجعله له مثلا ، والعدل والعدل والعديل سواء ، أي : النظير والمثيل ، وقيل : هو المثل وليس بالنظير عينه ، وفي التنزيل : أو عدل ذلك صياما ( 5 : 95 ) ، قال مهلهل :


                          على أن ليس عدلا من كليب إذا ظهرت مخبأة الخدور

                          والعدل ـ بالفتح ـ أصله مصدر قولك : عدلت بهذا عدلا حسنا ، نجعله اسما للمثل ؛ لتفرق بينه وبين عدل المتاع كما قالوا : امرأة رزان ، وعجز رزين للفرق ( ثم قال ) : والعدل بالكسر : نصف الحمل يكون على أحد جنبي البعير ، وقال الأزهري : العدل اسم حمل معدول يحمل آخر مسوى به ، والجمع أعدال وعدول عن سيبويه ، ثم قال : العديلتان الغرارتان ; لأن كل واحدة منهما تعادل صاحبتها ، الأصمعي : يقال عدلت الجوالق على البعير أعدله عدلا ، يحمل على جنب البعير ويسوى بآخر ، ابن الأعرابي : العدل ـ محرك ـ تسوية الأونين وهما العدلان ، ويقال : عدلت أمتعة البيت إذا جعلتها أعدالا مستوية للاعتكام يوم الظعن ، والعديل الذي يعادلك في المحمل اهـ .

                          [ ص: 142 ] وهذا الذي ذكره عن أهل اللغة الأولين هو المستعمل في كلام المعاصرين في الجزيرة وسورية ، وغيرهما ، ومنه يعلم أن العدل في الحكم بين الناس هو تحري المساواة والمماثلة بين الخصمين بألا يرجح أحدهما على الآخر بشيء قط ، بل يجعلهما سواء كالعدلين على ظهر البعير أو غيره ، فالعدل المأمور به معروف عند أهل اللغة وليس معناه الحكم بما ثبت في الشرع ; فإن هذا ثابت بدليل آخر ، وكل ما ثبت في الشرع من ذلك موافق للعدل ، وليس هو عين العدل ، بل العدل يكون بالعمل به وتطبيقه على الدعوى بحيث يصل إلى كل ذي حق حقه ، وقد أمر الله تعالى بالعدل مطلقا في بعض السور المكية قبل بيان الأحكام الشرعية ، وما كل المسائل التي يتعامل بها الناس ويتخاصمون فيها قد بينت أحكامها في الكتاب والسنة ، فما بين فيهما كان خير عون على العدل المقصود منهما ، وما لم يبين يجب على الحكام أن يتحروا فيه المساواة بقدر طاقتهم التي يصل إليها اجتهادهم ، وسيأتي في الآية التالية بيان ما يجب من اتباع أحكام الله ورسوله فيما حكما به ، وبيان ما يجب فيما لم يحكما به .

                          قال الرازي : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء : في الدخول عليه ، والجلوس بين يديه ، والإقبال عليهما ، والاستماع منهما ، والحكم عليهما ، قال : والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب ، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه ; لأنه لا يمكنه التحرز عنه .

                          قال : ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته ولا شاهدا شهادته ; لأن ذلك يضر بأحد الخصمين ، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف ، ولا يلقن المدعى عليه الإنكار والإقرار ، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا ، ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر ; لأن ذلك يكسر قلب الآخر ، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين ، وروي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه ، وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه ، وحاصل الأمر فيه : أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وألا يمتزج ذلك بغرض آخر ، وذلك هو المراد بقوله تعالى : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ( 4 : 58 ) ، اهـ .

                          المسألة الثالثة : أنواع الأمانة :

                          الأمانة على أنواع ; ولذلك جمعت في الآية وفي سورة الأنفال بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله وتخونوا أماناتكم ( 8 : 27 ) ، وسورة المؤمنون والمعارج بقوله تعالى : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ( 23 : 8 ، 70 : 32 ) ، وقد ذكرنا عن الأستاذ الإمام أمانة العلم ، وأمانة المال ، وجعلها بعضهم ثلاثا :

                          ( إحداها أمانة العبد مع الرب ) : وهي ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به والانتهاء [ ص: 143 ] عما نهاه عنه ، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه ، فالمعاصي كلها خيانة لله عز وجل ، وقد ورد في المأثور ما يدل على ذلك .

                          ثانيها : ( أمانة العبد مع الناس ) ويدخل فيها رد الودائع وعدم الغش في شيء من الأشياء ، وحفظ السر وغير ذلك مما يجب لآحاد الناس ، وللحكام ، وللأهل والأقربين ، قال الرازي : ويدخل في هذا القسم " عدل الأمراء مع رعيتهم ، وعدل العلماء مع العوام بألا يحملوهم على التعصبات الباطلة ، بل يرشدوهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم " ، فعلى هذا يكون العلماء الذين يعلمون العامة مسائل الخلاف التي تثير التعصب بينهم ، والذين لا يعلمونهم ما ينفعهم في دنياهم من أمور التربية الحسنة وكسب الحلال ، وما ينفعهم في آخرتهم من المواعظ والأحكام التي تقوي إيمانهم وتنفرهم من الشرور وترغبهم في الخيرات ، كل أولئك العلماء من الخائنين للأمة ، وهذا القسم يمكن أن يقسم إلى أقسام ، فيجعل رعاية أمانة الحكام قسما ، ورعاية أمانة الأقربين من الأصول والفروع والحواشي قسما ، ورعاية أمانة الزوجية والصهر قسما ، ومنها ألا يفشي أحد الزوجين سر الآخر ، ولا سيما السر الذي يختص بهما ، ولا يطلع عليه عادة منهما سواهما ، ورعاية أمانات سائر الناس قسما .

                          ثالثها : ( أمانة الإنسان مع نفسه ) وعرفها الرازي بألا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والأصلح له في الدين والدنيا ، وألا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة .

                          أقول : ومن ذلك الذي أجمله توقي الإنسان لأسباب الأمراض والأوبئة بحسب معرفته ، وما يستفيده من الأطباء ، وذلك يدل على أن رعاية هذا النوع من الأمانة يتوقف على تعلم ما يحتاج إليه من علم حفظ الصحة ولا سيما في أيام الأمراض الوبائية المنتشرة ، مثال ذلك : أنه قد عرف بالتجارب نفع بعض ما يعمل للوقاية من المرض كتلقيح الجدري ، ومن ذلك التداوي عند وقوع المرض ، وتفصيل رعاية هذه الأمانات يطول ، وسنعيد البحث فيها عند تفسير تلك الآيات إن أنسأ الله في العمر .

                          المسألة الرابعة : قدم الأمر بأداء الأمانات على الأمر بالعدل ; لأن العدل في الأحكام يحتاج إليه عند الخيانة في الأمانات التي تتعلق بحقوق الناس والتخاصم إلى الحاكم ، والأصل أن يكون الناس أمناء يقومون بأداء الأمانات بوازع الفطرة والدين ، والخيانة خلاف الأصل ، ومن شأنها أنها لا تقع في الأمة المتدينة إلا شذوذا ، وقلما يحتاج إلى العدل في الحكم إذا راعى الناس أماناتهم وأدوها إلى أهلها .

                          المسألة الخامسة : ورد في الأمانة عدة آيات ذكرنا بعضها آنفا ، وورد فيها أحاديث كثيرة مشددة في وجوب رعايتها وأدائها وتشنيع الخيانة والوعيد عليها ، منها حديث : آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان رواه الشيخان والترمذي [ ص: 144 ] والنسائي من حديث أبي هريرة ، وفي معناه حديث : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم ، من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان رواه رسته ( عبد الرحمن بن عمر أبي الحسن الزهري الأصفهاني ) في الإيمان وأبو الشيخ في التوبيخ من حديث أنس ، وهو مروي عن غيره عند غيرهما بألفاظ أخرى ، ومنها حديث : لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له رواه أحمد وابن حبان من حديث أنس ورمز له السيوطي في جامعه بالصحة ، ومنها حديث : لن تزال أمتي على الفطرة ما لم يتخذوا الأمانة مغنما والزكاة مغرما رواه سعيد بن منصور في سننه .

                          المسألة السادسة : في حكمة تأكيد الأمر بالأمانة وبيان فائدتها ومضرة الخيانة : ذكر حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني في رسالته ( الرد على الدهريين ) التي ألفها بالفارسية ، وترجمها بالعربية تلميذه الأستاذ الإمام : إن الدين قد أفاد الناس ثلاث عقائد وثلاث خصال أقاموا بها بناء مدنيتهم ، ومن هذه الخصال أو الصفات : الأمانة : وهاك ما قاله فيها فهو يغني عن غيره :

                          " من المعلوم الجلي أن بقاء النوع الإنساني قائم بالمعاملات والمعاوضات في منافع الأعمال ، وروح المعاملة والمعاوضة إنما هي الأمانة ، فإن فسدت الأمانة بين المتعاملين بطلت صلات المعاملة وانبترت حبال المعاوضة ، فاختل نظام المعيشة ، وأفضى ذلك بنوع الإنسان إلى الفناء العاجل .

                          " ثم من البين أن الأمم في رفاهتها ، والشعوب في راحتها وانتظام أمر معيشتها محتاجة إلى الحكومة بأي أنواعها ، إما جمهورية ، أو ملكية مشروطة ، أو ملكية مقيدة ، والحكومة في أي صورها لا تقوم إلا برجال يلون ضروبا من الأعمال فمنهم حراس على حدود المملكة يحمونها من عدوان الأجانب عليها ، ويدافعون في الوالج في ثغورها ، وحفظة في داخل البلاد يأخذون على أيدي السفهاء ممن يهتك ستر الحياء ، ويميل إلى الاعتداء من فتك أو سلب أو نحوهما ، ومنهم حملة الشرع ، وعرفاء القانون يجلسون على منصات الأحكام لفصل الخصومات ، والحكم في المنازعات ، ومنهم أهل جباية الأموال يحصلون من الرعايا ما فرضت عليهم الحكومة من خراج مع مراعاة قانونها في ذلك ، ثم يستحفظون ما يحصلون في خزائن المملكة ، وهي خزائن الرعايا في الحقيقة وإن كانت مفاتيحها بأيدي خزنتها ، ومنهم من يتولى صرف هذه الأموال في المنافع العامة للرعية مع مراعاة الاقتصاد والحكمة ، كإنشاء المدارس ، والمكاتب ، وتمهيد الطرق ، وبناء القناطر ، وإقامة الجسور ، وإعداد المستشفيات ، ويؤدي أرزاق سائر العاملين في شئون الحكومة من الحراس والحفظة وقضاة العدل وغيرهم حسبما عين لهم ، وهذه الطبقات من رجال الحكومة الوالين على أعمالها إنما تؤدي كل طبقة منها عملها المنوط بها بحكم [ ص: 145 ] الأمانة ، فإن خزيت أمانة أولئك الرجال وهم أركان الدولة سقط بناء السلطة وسلب الأمن ، وراحت الراحة من بين الرعايا كافة وضاعت حقوق المحكومين ، وفشا فيهم القتل والتناهب ووعرت طرق التجارة ، وتفتحت عليهم أبواب الفقر والفاقة ، وخوت خزائن الحكومة ، وعميت على الدولة سبل النجاح ; فإن حزبها أمر سدت عليها نوافذ النجاة ، ولا ريب أن قوما يساسون بحكومة خائنة ، إما أن ينقرضوا بالفساد ، وإما أن يأخذهم جبروت أمة أجنبية عنهم يسومونهم خسفا ، ويستبدون فيهم عسفا فيذوقون من مرارة العبودية ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال .

                          " ومن الظاهر أن استعلاء قوم على آخرين إنما يكون باتحاد آحاد العاملين والتئام بعضهم ببعض حتى يكون كل منهم لبنية قومه كالعضو للبدن ، ولن يكون هذا الاتحاد حتى تكون الأمانة قد ملكت قيادهم ، وعمت بالحكم أفرادهم .

                          " فقد كشف الحق أن الأمانة دعامة بقاء الإنسان ، ومستقر أساس الحكومات ، وباسط ظلال الأمن والراحة ، ورافع أبنية العز والسلطان ، وروح العدالة وجسدها ، ولا يكون شيء من ذلك بدونها .

                          " وإليك الاختيار في فرض أمة عطلت نفوسها من حلية هذه الخلة الجليلة ، فلا تجد فيها إلا آفات جائحة ورزايا قاتلة ، وبلايا مهلكة ، وفقرا معوزا ، وذلا معجزا ، ثم لا تلبث بعد هذا كله أن تبتلعها بلاليع العدم ، وتلتهمها أمهات اللهيم اهـ .

                          المسألة السابعة : ورد الأمر بالعدل والتعظيم لشأنه في كثير من الآيات والأحاديث كقوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان ( 16 : 90 ) ، وقوله : فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ( 49 : 9 ) ، والإقساط هو : العدل ، وقوله آمرا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبلغه للناس : وأمرت لأعدل بينكم ( 42 : 15 ) ، وقوله : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ( 4 : 135 ) ، الآية ، وفي معناها قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ( 5 : 8 ) ، وسيأتي تفسيرها في مواضعها ولا حاجة إلى إيراد الأحاديث هنا ولا الآيات المحرمة للظلم المتوعدة عليه .

                          المسألة الثامنة : المسلمون مأمورون بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق ، وقد قال تعالى : وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ( 6 : 152 ) ، وهذا الأمر موجه إلى الحكام وغيرهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية