الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 152 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - وإن رمى الصيد اثنان أحدهما بعد الآخر ولم يعلم بإصابة من منهما صار غير ممتنع فقد قال في المختصر : إنه يؤكل ويكون بينهما فحمل أبو إسحاق هذا على ظاهره فقال : يحل أكله لأن الأصل أنه بقي بعد عقر الأول على الامتناع إلى أن قتله الآخر فيحل ويكون بينهما لأن الظاهر أنهما مشتركان فيه بحكم اليد ومن أصحابنا من قال : إن بقي على الامتناع حتى رماه الآخر فقتله حل وكان للثاني وإن زال امتناعه بالأول فهو للأول ولا يحل بقتل الثاني لأنه صار مقدورا عليه فيجب أن يتأول عليه إذا لم يمتنع الصيد حتى أدركه وذكاه فيحل واختلفا في السابق منهما فيكون بينهما فإن رمى رجل صيدا فأزال امتناعه ثم رماه الآخر نظرت فإن أصاب الحلقوم والمريء فقتله حل أكله لأنه قد صار ذكاته في الحلق واللبة وقد ذكاه في الحلق واللبة ويلزمه للأول ما بين قيمته مجروحا ومذبوحا كما لو ذبح له شاة مجروحة وإن أصاب غير الحلق واللبة نظرت فإن وحاه لم يحل أكله لأنه قد صار ذكاته في الحلق واللبة فقتله بغير ذكاة فلم يحل ويجب عليه قيمته لصاحبه مجروحا كما لو قتل له شاة مجروحة فإن لم يوحه وبقي مجروحا ثم مات نظرت فإن مات قبل أن يدركه صاحبه أو بعد ما أدركه وقبل أن يتمكن من ذبحه وجب عليه قيمته مجروحا لأنه مات من جنايته ، وإن أدركه وتمكن من ذبحه فلم يذبحه حتى مات لم يحل أكله لأنه ترك ذكاته في الحلق مع القدرة واختلف أصحابنا في ضمانه فقال أبو سعيد الإصطخري : تجب عليه قيمته مجروحا لأنه لم يوجد من الأول أكثر من الرمي الذي ملك وهو فعل مباح وترك ذبحه إلى أن مات وهذا لا يسقط الضمان كما لو جرح رجل شاة لرجل فترك صاحبها ذبحها حتى ماتت .

                                      ( والمذهب ) أنه لا يجب عليه كمال القيمة لأنه مات بسببين محظورين : جناية الثاني وسراية جرح الأول فالسراية كالجناية في إيجاب الضمان فيصير كأنه مات من جناية اثنين وما هلك بجناية اثنين لا يجب على أحدهما كمال القيمة وإذا قلنا بهذا قسم الضمان على الجانبين فما يخص الأول يسقط عن الثاني ويجب عليه الباقي ونبين ذلك في جنايتين مضمونتين ليعرف ما يجب على كل واحد منهما فما وجب على الأول منهما من قيمته أسقطناه عن الثاني [ ص: 153 ] فنقول : إذا كان لرجل صيد قيمته عشرة فجرحه رجل جراحة نقص من قيمته درهم ثم جرحه آخر فنقص درهم . ثم مات ففيه لأصحابنا ستة طرق ( أحدهما ) وهو قول المزني أنه يجب على كل واحد منهما أرش جنايته ثم تجب قيمته بعد الجنايتين بينهما نصفين فيجب على الأول درهم وعلى الثاني درهم ، ثم تجب قيمته بعد الجنايتين وهي ثمانية بينهما نصفان على كل واحد منهما أربعة فيحصل على كل واحد منهما خمسة لأن كل واحد منهما انفرد بجنايته فوجب عليه أرشها ثم هلك الصيد بجنايتهما فوجب عليهما قيمته ( والثاني ) وهو قول أبي إسحاق إنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته يوم الجناية ونصف أرش جنايته فيجب على الأول خمسة دراهم ونصف وسقط عنه النصف لأن أرش الجناية يدخل في النفس وقد ضمن نصف النفس ، والجناية كانت على النصف الذي ضمنه وعلى النصف الذي ضمنه الآخر فما حصل على النصف الذي ضمنه يدخل في الضمان فيسقط وما حصل على النصف الذي ضمنه الآخر يلزم فيحصل عليه خمسة دراهم ونصف ، والآخر جنى وقيمته تسعة ، فيلزمه نصف قيمته أربعة ونصف ، وأرش جنايته درهم فيدخل نصفه في النصف الذي ضمنه ويبقى النصف لأجل النصف الذي ضمنه الأول فيجب عليه خمسة دراهم ثم يرجع الأول على الثاني بنصف الأرش الذي ضمنه وهو نصف درهم ; لأن هذا الأرش وجب بالجناية على النصف الذي ضمنه الأول وقد ضمن الأول كمال قيمة النصف فرجع بأرش الجناية عليه كرجل غصب من رجل ثوبا فخرقه رجل ثم هلك الثوب وجاء صاحبه وضمن الغاصب كمال قيمة الثوب فإنه يرجع على الجاني بأرش الخرق فيحصل على الأول خمسة دراهم وعلى الثاني خمسة دراهم فهذا يوافق قول المزني في الحكم وإن خالفه في الطريق .

                                      ( والثالث ) وهو قول أبي الطيب بن سلمة إنه يجب على كل واحد منهما نصف قيمته حال الجناية ونصف أرش جنايته ويدخل النصف فيما ضمنه صاحبه كما قال أبو إسحاق إلا أنه قال : لا يعود من الثاني إلى الأول شيء ثم ينظر لما حصل على كل واحد منهما ويضم بعضه إلى بعض وتقسم عليه العشرة فيجب على الأول خمسة دراهم ونصف وعلى الثاني خمسة دراهم فذلك عشرة ونصف فتقسم العشرة على عشرة ونصف ، فما يخص خمسة ونصفا يجب على الأول وما يخص خمسا يجب على الثاني .

                                      ( والرابع ) وما قال بعض أصحابنا إنه يجب على الأول أرش جنايته ثم [ ص: 154 ] تجب قيمته بعد ذلك بينهما نصفين ولا يجب على الثاني أرش جنايته فيجب على الأول درهم ثم تجب التسعة بينهما نصفين على كل واحد منهما أربعة دراهم ونصف ، فيحصل على الأول خمسة دراهم ونصف ، وعلى الثاني أربعة دراهم ونصف ، لأن الأول انفرد بالجناية ، فلزمه أرشها ثم اجتمع جناية الثاني وسراية الأول فحصل الموت منهما فكانت القيمة بينهما .

                                      ( والخامس ) ما قال بعض أصحابنا إن الأرش يدخل في قيمة الصيد فيجب على الأول نصف قيمته حال الجناية وهو خمسة وعلى الثاني نصف قيمته حال الجناية وهو أربعة ونصف ويسقط نصف درهم قال : لأني لم أجد محلا أوجبه فيه .

                                      ( والسادس ) وهو قول أبي علي بن خيران وهو أن أرش جناية كل واحد منهما يدخل في القيمة فتضم قيمة الصيد عند جناية الأول إلى قيمة الصيد عند جناية الثاني فتكون تسعة عشر ثم تقسم العشرة على ذلك فما يخص عشرة فهو على الأول وما يخص تسعة فهو على الثاني وهذا أصح الطرق لأن أصحاب الطرق الأربعة لا يدخلون الأرش في بدل النفس ، وهذا لا يجوز لأن الأرش يدخل في بدل النفس وصاحب الطريق الخامس يوجب في صيد قيمته عشرة تسعة ونصفا ويسقط من قيمته نصف درهم وهذا لا يجوز

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الفصل مع الفصل الذي قبله والفصل الذي بعده مرتبطة ، ومسائلها متداخلة ، وهي متشعبة ، وقد لخصها الرافعي - رحمه الله تعالى - ، فأنا إن شاء الله أنقل ما ذكره ، وأضم إليه ما تركه مع التنبيه على كلام المصنف - رحمه الله - قال الرافعي : الاشتراك في الصيد والازدحام عليه له أربعة أحوال : ( الحال الأول ) أن يتعاقب جرحان من اثنين ، فالأول منهما إن لم يكن مذففا ولا مزمنا ، بل بقي على امتناعه ، وكان الثاني مذففا أو مزمنا فالصيد للثاني ولا شيء له على الأول بجراحته ، وإن كان جرح الأول مذففا فالصيد للأول ، وعلى الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده برميه ، وإن كان جرح الأول مزمنا ملك الصيد به ونفصل في الثاني ، فإن ذفف فقطع الحلقوم والمريء فهو حلال للأول ، وعلى الثاني للأول ما بين قيمته [ ص: 155 ] مذبوحا ومزمنا ، قال الإمام : إنما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة . وإن كان متألما بحيث لو لم يذبح لهلك ، فعندي أنه لا ينقص منه بالذبح شيء ، فإن ذفف الثاني لا بقطع الحلقوم والمريء أو لم يذفف ومات بالجرحين فهو صيد ، وكذا الحكم لو رمى إلى صيد فأزمنه ثم رمى إليه ثانيا وذفف لا بقطع المذبح ، ويجب على الثاني كمال قيمة الصيد مجروحا . إن كان ذفف ، فإن كان جرح لا يذفف ومات بالجرحين ، ففيما يجب عليه كلام له مقدمة نذكرها أولا وهي : إذا جنى رجل على عبد إنسان أو بهيمته ، أو صيد مملوك قيمته عشرة دنانير ، جراحة أرشها دينار ثم جرحه آخر جراحة أرشها دينار أيضا فمات بالجرحين ففيما يلزم الجارحين ستة أوجه مشهورة : ( أحدها ) يجب على الأول خمسة دنانير ، وعلى الثاني أربعة ونصف لأن الجرحين سريا وصارا قتلا ، فلزم كل واحد نصف قيمته وهذا قول ابن سريج ، وضعفه الأصحاب ، لأن فيه ضياع نصف دينار على المالك .

                                      ( والثاني ) قاله المزني وأبو إسحاق المروزي والقفال يلزم كل واحد خمسة دنانير لأن كل واحد كان أرش جنايته دينارا فلزمه ثم مات بجرحيهما فلزمهما باقي قيمته وهي ثمانية بينهما نصفين فصار على كل واحد خمسة ، وعلى هذا لو نقصت جناية الأول دينارا وجناية الثاني دينارين لزم الأول أربعة ونصف ولزم الثاني خمسة ونصف ، ولو نقصت جناية الأول دينارين وجناية الثاني دينارا انعكس ، فيلزم الأول خمسة ونصف ويلزم الثاني أربعة ونصف ، وضعف الأصحاب هذا الوجه أيضا ، لأنه سوى بينهما مع اختلاف قيمته حال أخذهما .

                                      ( والوجه الثالث ) حكاه إمام الحرمين عن القفال أيضا أنه يلزم الأول خمسة ونصف ، والثاني خمسة ، لأن جناية كل واحد نقصت دينارا [ ص: 156 ] ثم سريا والأرش يسقط إذا صارت الجناية نفسا ، فيسقط عن كل واحد نصف الأرش لأن الموجود منه نصف القتل ( واعترضوا ) على هذا بأن فيه زيادة الواجب على المتلف ، وأجاب القفال بأن الجناية قد تنجر إلى إيجاب زيادة ، كمن قطع يدي عبد ثم قتله آخر ( وأجيب ) عنه بأن قاطع اليدين لا شركة له في القتل ، بل القتل يقطع أثر القطع ويقع موقع الاندمال ، وهنا بخلافه .

                                      ( والوجه الرابع ) قاله أبو الطيب بن سلمة يلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته ، ونصف الأرش لكن لا يزيد الواجب على القيمة ، فيجمع ما لزمهما تقديرا ، وهو عشرة ونصف ، وتقسم القيمة وهي عشرة على العشرة والنصف ليراعى التفاوت بينهما ، فيبسط أنصافا ، فيكون إحدى وعشرين فيلزم الأول إحدى عشرة جزءا من إحدى وعشرين جزءا من عشرة ، ويلزم الثاني عشرة من إحدى وعشرين من عشرة وهو ضعيف لإفراد أرش الجناية عن بدل النفس .

                                      ( والوجه الخامس ) قاله صاحب التقريب وغيره ، واختاره إمام الحرمين : يلزم الأول خمسة ونصف ، والثاني أربعة ونصف ، لأن الأول لو انفرد بالجرح والسراية لزمه العشرة ، فلا يسقط عنه إلا ما لزم الثاني ، والثاني إنما جنى على نصف ما يساوي تسعة ، وفيه ضعف أيضا .

                                      ( والوجه السادس ) قاله ابن خيران ، واختاره صاحب الإفصاح . وأطبق العراقيون على ترجيحه أنه يجمع بين القيمتين فيكون تسعة عشر ، فيقسم عليه ما فوتا ، وهي عشرة ، فيكون على الأول عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة ، وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم . أما إذا كانت الجناة ثلاثة ، وأرش كل جناية دينار ، والقيمة عشرة . [ ص: 157 ] فعلى طريقة المزني يلزم كل واحد ثلاثة وثلث ، وعلى الوجه الثالث يلزم الأول أربعة منها ثلاثة وثلث ، هي ثلث سهم القيمة ، وثلثان هما ثلثا الأرش ويلزم الثالث ثلاثة منها ديناران وثلث هي ثلث القيمة يوم جنايته وثلثان هما ثلثا الأرش فالجملة عشرة وثلثان ، وعلى الوجه الرابع توزع العشرة على عشرة وثلثين ، وعلى الخامس يلزم الأول أربعة وثلث ويلزم الثاني ثلاثة ، والثالث ديناران وثلثان ، وعلى السادس تجمع القيم فتكون سبعة وعشرين فتقسم العشرة عليها .

                                      ( أما ) إذا جرح مالك العبد أو الصيد جراحة ، وأجنبي أخرى ، فينظر في جناية المالك أهي الأولى ؟ أم الثانية ؟ ويخرج على الأوجه فتسقط حصته ، وتجب حصة الأجنبي ، وعن القاضي أبي حامد المروذي أن المذكور في الجنايتين على العبد هو فيما إذا لم يكن للجناية أرش مقدر ، فإن كان فليس العبد فيها كالبهيمة والصيد المملوك ، حتى لو جنى على عبد غيره جناية ليس لها أرش مقدر ، وقيمته مائة ، فنقصت الجناية عشرة ، ثم جنى آخر جناية لا أرش لها فنقصت عشرة أيضا ، ومات العبد منهما . فعلى الأول خمسة وخمسون ، وعلى الثاني خمسون ، يدفع منها خمسة إلى الأول . قال : فلو قطع رجل يد عبد قيمته مائة ، ثم قطع آخر يده الأخرى ، لزم الأول نصف أرش اليد وهو خمسة وعشرون ، ونصف القيمة يوم جنايته وهو خمسون ، ولزم الثاني نصف أرش اليد خمسة وعشرون ، ونصف القيمة يوم جنايته وهو أربعون ، فالجملة مائة وأربعون جميعها للسيد لأن الجناية التي لها أرش مقدر يجوز أن يزيد واجبها على قيمة العبد كما لو قطع يديه فقتله آخر .

                                      هذا بيان المقدمة ونعود إلى الصيد فنقول : [ ص: 158 ] إذا جرح الثاني جراحة غير مذففة ومات الصيد بالجرحين ، نظر إن مات قبل أن يتمكن الأول من ذبحه لزم الثاني تمام قيمته مزمنا لأنه صار ميتا بفعله بخلاف ما لو جرح شاة نفسه وجرحها آخر وماتت ، فإنه لا يجب على الثاني إلا نصف القيمة ، لأن كل واحد من الجرحين هناك حرام والهلاك حصل بهما ، وهنا فعل الأول اكتساب وذكاة ، ثم مقتضى كلام الأصحاب أن يقال : إذا كان الصيد يساوي عشرة غير مزمن وتسعة مزمنا لزم الثاني تسعة ، واستدرك صاحب التقريب فقال : فعل الأول وإن لم يكن إفسادا فيؤثر في الذبح ، وحصول الزهوق قطعا فينبغي أن يعتبر ، فيقال : إذا كان غير مزمن يساوي عشرة ، ومزمنا تسعة ، ومذبوحا ثمانية . تلزمه ثمانية ونصف فإن الدرهم أثر في فواته الفعلان فوزع عليهما . قال الإمام : وللنظر في هذا مجال . ويجوز أن يقال المفسد يقطع أثر فعل الأول من كل وجه والأصح ما ذكره صاحب التقريب . وإن تمكن من ذبحه فذبحه لزم الثاني أرش جراحته إن نقص بها . وإن لم يذبحه وتركه حتى مات فوجهان ( أحدهما ) لا شيء على الثاني سوى أرش النقص ، لأن الأول مقصر بترك الذبح ( وأصحهما ) يضمن زيادة على الأرش ولا يكون تركه الذبح مسقطا للضمان كما لو جرح رجل شاته فلم يذبحها مع التمكن لا يسقط الضمان فعلى هذا فيما يضمن ( وجهان ) قال الإصطخري : يضمن كمال قيمته مزمنا كما لو ذهب بخلاف ما إذا جرح عبده أو شاته وجرحه غيره أيضا ، لأن كل واحد من الفعل هناك إفساد ، والتحريم حصل بهما ، وهنا الأول إصلاح ( والأصح ) قول جمهور الأصحاب لا يضمن جميع القيمة بل هو كمن جرح عبده وجرحه غيره ، لأن الموت حصل بهما ، وكلاهما إفساد أما الثاني فظاهر ، وأما الأول فلأن ترك الذبح مع التمكن يجعل الجرح وسرايته إفسادا ، ولهذا لو لم يوجد الجرح الثاني فترك الذبح كان الصيد ميتة ، فعلى هذا تجيء [ ص: 159 ] الأوجه في كيفية التوزيع على الجرحين ، فما هو في حصة الأول يسقط ، وتجب حصة الثاني ، والله أعلم .

                                      ( الحال الثاني ) أن يقع الجرحان معا فينظر إن تساويا في سبب الملك فالصيد بينهما ، وذلك بأن يكون بكل واحد منهما مذففا أو مزمنا أو انفردا وأحدهما مذففا والآخر مزمنا ، وسواء تفاوت الجرحان صغرا وكبرا أو تساويا ، أو كانا في المذبح أو في غيره أو أحدهما فيه ، والآخر في غيره ، وإن كان أحدهما مزمنا أو مذففا لو انفرد ، والآخر غير مؤثر ، فالصيد لمن ذفف أو أزمن ، ولا ضمان على الثاني ، لأنه لم يجرح ملك الغير ، ولو احتمل أن يكون الإزمان بهما واحتمل أن يكون هذا دون ذاك ، وذاك دون هذا ، فالصيد بينهما في ظاهر الحكم ، ويستحب أن يستحل كل واحد منهما الآخر تورعا ، ولو علمنا أن أحدهما مذفف وشككنا هل الآخر أثر في الإزمان والتذفيف أم لا ؟ قال القفال : هو بينهما فقيل له : لو جرح رجل جراحة مذففة وجرحه آخر جراحة لا يدري أمذففة هي أم لا ؟ فمات فقال : يجب القصاص عليهما ، قال الإمام : هذا بعيد ، والوجه تخصيص القصاص بصاحب المذففة ، وفي الصيد يسلم نصفه لمن جرحه مذففا ويوقف نصفه بينهما إلى المصالحة أو تبين الحال ، فإن لم يتوقع بيان جعل النصف الآخر بينهما نصفين ، والله سبحانه أعلم .

                                      ( الحال الثالث ) إذا ترتب الجرحان وأحدهما مزمن لو انفرد والآخر مذفف وارد على المذبح ، ولم يعرف السابق ، فالصيد حلال ، وإن اختلفا وادعى كل واحد أنه جرحه أولا وأزمنه ، أو أنه له فلكل واحد تحليف الآخر ، فإن حلف فالصيد بينهما . ولا شيء لأحدهما على الآخر ، وإن حلف أحدهما فقط فالصيد له ، وعلى الآخر أرش ما نقص بالذبح ، ولو ترتبا وأحدهما مزمن والآخر مذفف في غير المذبح ولم يعرف السابق فالمذهب الذي قطع به الجمهور أن الصيد حرام ، لاحتمال تقدم الإزمان [ ص: 160 ] فلا يحل بعده إلا بقطع الحلقوم والمريء ، وقيل قولان كمسألة الإيماء السابقة ، ووجه الشبه اجتماع المبيح والمحرم والفرق على المذهب أنه سبق هناك جرح يحال عليه ، فإن ادعى كل واحد أنه أزمنه أولا وأن الآخر أفسده ، فالصيد حرام ، ولكل واحد تحليف الآخر ، فإن حلفا فلا شيء لأحدهما على الآخر ، وإن حلف أحدهما لزم الثاني كل قيمته مزمنا .

                                      ولو قال الجارح أولا : أزمنته أنا ، ثم أفسدته أنت بقتلك ، فعليك القيمة ، وقال الثاني : لم تزمنه أنت بل كان امتناعه إلى أن رميته فأزمنته ، أو ذففته ، فإن اتفقا على غير جراحة الأول وعلمنا أنه لا يبقى امتناع معها ككسر وكسر رجل الممتنع بالعدو فالقول قول الأول بلا يمين ، وإلا فالقول قول الثاني ، لأن الأصل بقاء الامتناع ، فإن حلف فالصيد له ولا شيء على الأول ، وإن نكل حلف الأول واستحق قيمته مجروحا الجراحة الأولى ، ولا يحل الصيد لأنه ميتة بزعمه ، وهل للثاني أكله ؟ فيه وجهان ( قال القاضي أبو الطيب ) : لا ، لأن إلزامه القيمة حكم بكونه ميتة ، وقال غيره : له أكله لأن النكول في خصومة الآدمي لا تغير الحكم فيما بينه وبين الله تعالى ، ولو علمنا أن الجراحة المذففة سابقة على التي لو انفردت لكانت مزمنة فالصيد حلال ، فإن قال كل واحد : أنا ذففته فلكل واحد تحليف الآخر ، فإن حلفا كان بينهما وإن حلف أحدهما كان له وعلى الآخر ضمان ما نقص .

                                      ( فرع ) قال الشافعي - رحمه الله تعالى - في المختصر : لو رماه الأول والثاني ووجدناه ميتا ولم يدر أجعله الأول ممتنعا أم لا لجعلناه بينهما نصفين ، وقال في الأم : حل أكله وكان بينهما نصفين واعترض عليه فقيل : [ ص: 161 ] ينبغي أن يحرم هذا الصيد لاجتماع ما يقتضي الإباحة والتحريم والأصل التحريم وعلى تقدير الحل ينبغي أن لا يكون بينهما بل يكون لمن أثبته منهما ، واختلف الأصحاب في الجواب عن هذين الاعتراضين على ثلاثة أوجه ( أحدها ) ترك ظاهر كلام الشافعي ، وتسليم ما قاله المعترض وتأويل كلام الشافعي ( وأما ) قوله : إنه يحل أكله . فأراد به إذا عقره أحدهما فأثبته ، ثم أصاب الثاني محل الذكاة ، فقطع الحلقوم والمريء أو أثبتاه ولم يصر في حكم الممتنع ، ثم أدركه أحدهما فذكاه فيحل أكله ( وأما ) قوله : إنه بينهما فأراد إذا كانت يدهما عليه ، ولا يعلم مستحقه منهما فيقسم بينهما .

                                      ( فأما ) إذا وجداه ميتا من الجراحتين فلا يحل أكله ، فإن اتفقا على أن الثاني هو القاتل كان عليه القيمة وإن اختلفا فيه حلف كل واحد منهما لصاحبه كما سبق قال أصحابنا : ولا يمتنع التصوير فيما ذكرناه فقد يجعل الشيء لاثنين ، وإن كنا نعلمه في الباطن لأحدهما ، كمن مات عن اثنين مسلم ونصراني ادعى كل واحد أن أباه مات على دينه ( والوجه ) الثاني ترك ظاهر كلام الشافعي أيضا وتأويله على أن مراده صيد ممتنع برجله وجناحه كالحجل ، فأصاب أحدهما رجله فكسرها وأصاب الآخر جناحه فكسره ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه بينهما لأن امتناعه حصل بفعلها ( وأصحهما ) أنه للثاني ، لأنه كان ممتنعا بعد إصابة الأول . وإنما زال امتناعه بإصابة الثاني فكان له . فإن قلنا : بينهما فالمسألة مفروضة فيه ( وإن قلنا ) : هو للثاني لم يعلم الثاني منهما ويدهما عليه فكان بينهما .

                                      ( الوجه الثالث ) وهو قول أبي إسحاق المروزي أن النص على ظاهره ، فإن أزمناه ومات الصيد ولم يدر هل أثبته الأول أم لا ؟ فالأصل بقاؤه على ، امتناعه إلى أن عقره الثاني ، فيكون عقره ذكاة ، ويكون بينهما لاحتمال الإثبات من كليهما ، ولا مزية لأحدهما ، قال صاحب البيان : فإن قيل : [ ص: 162 ] قد قلتم الأصل بقاؤه على الامتناع إلى أن رماه الثاني . فكيف لم تزل يد الأول ؟ ( قلنا ) : هذا لا يزال به حكم اليد ، ولهذا لو كان في يده شيء يدعيه حكم له بذلك وإن كان الأصل عدم الملك ، فدل على أن اليد أقوى من حكم الأصل ، ومن أصحابنا من قال : في حل هذا الصيد قولان كمسألة الإيماء السابقة ، والله سبحانه أعلم .

                                      ( الحال الرابع ) إذا ترتبت الجرحان وحصل الإزمان بهما وكل واحد لو انفرد لم يزمن فوجهان ( أصحهما ) عند الجمهور أن الصيد للثاني ( والثاني ) أنه بينهما ورجحه إمام الحرمين والغزالي ( فإن قلنا ) إنه للثاني أو كان الجرح الثاني مزمنا لو انفرد ، فلا شيء على الأول بسبب جرحه فلو عاد الأول بعد إزمان الثاني وجرحه جراحة أخرى نظر إن أصاب المذبح فهو حلال ، وعليه للثاني ما نقص من قيمته بالذبح ، وإلا فالصيد حرام . وعليه - إن ذفف - قيمته مجروحا بجراحته الأولى وجراحة الثاني . وكذا إن لم يذفف ولم يتمكن الثاني من ذبحه فإن تمكن وترك الذبح عاد الخلاف السابق . فعلى أحد الوجهين ليس على الأول إلا أرش الجراحة الثانية لتقصير المالك ، وعلى أصحهما لا يقصد بالضمان عليه ، وعلى هذا فوجهان : ( أحدهما ) يلزمه نصف القيمة ، وخرجه جماعة على الخلاف فيمن جرح عبدا مرتدا فأسلم ثم جرحه سيده ثم عاد الأول وجرحه ثانيا ومات منهما . وفيما يلزمه وجهان ( أحدهما ) ثلث القيمة ( والثاني ) ربعها قاله القفال فعلى هذا هنا ربع القيمة ، وعن صاحب التقريب أنه يعود في التوزيع الأوجه الستة السابقة ، واختار الغزالي وجوب تمام القيمة ، والمذهب التوزيع كما سبق ، والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) الاعتبار في الترتيب والمفسد ، بالإصابة ، لا ببدء الرمي ، والله أعلم .

                                      [ ص: 163 ] فرع ) لو أقام رجلان كل واحد منهما بينة أنه اصطاد هذا الصيد ففيه القولان في تعارض البينتين ( أصحهما ) سقوطها ، ويرجع إلى قول من هو في يده .

                                      ( فرع ) لو كان في يده صيد فقال آخر : أنا اصطدته . فقال صاحب اليد : لا علم لي بذلك ، قال ابن كج : لا نقنع منه بهذا الجواب ، بل يدعيه لنفسه أو ليسلمه إلى مدعيه .

                                      ( فرع ) قال ابن المنذر : لو أرسل جماعة كلابهم على صيد فأدركه المرسلون قتيلا ، وادعى كل واحد أن كلبه القاتل ، قال أبو ثور : إن مات الصيد بينهم فهو حلال ، فإذا اختلفوا فيه وكانت الكلاب متعلقة به فهو بينها ، وإن كان مع أحد الكلاب فهو لصاحب هذا الكلب وإن كان قتيلا والكلاب ناحبة أقرع بينهم ، وأعطي كل واحد حصته بالقرعة . وقال غير أبي ثور : لا تجيء القرعة ، بل يوقف بينهم حتى يصطلحوا ، فإن خيف فساده بيع ووقف الثمن بينهم حتى يصطلحوا ، هذا كلام ابن المنذر .



                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ومن ملك صيدا ثم خلاه ففيه وجهان ( أحدهما ) يزول ملكه ، كما لو ملك عبدا ثم أعتقه ( والثاني ) لا يزول ملكه كما لو ملك بهيمة ثم سيبها ، وبالله التوفيق ) ( الشرح ) قال أصحابنا : إذا ملك صيدا ثم أفلت منه لم يزل ملكه عنه بلا خلاف ومن أخذه لزمه رده إليه . وسواء كان يدور في البلد وحوله ، أو التحق بالوحوش . ولا خلاف في شيء من هذا . ولو أرسله مالكه وخلاه ليرجع صيدا كما كان فهل يزول ملكه عنه ؟ فيه وجهان مشهوران . [ ص: 164 ] ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) باتفاق الأصحاب : لا يزول وهو المنصوص ، كما لو أرسل بهيمته ونوى إزالة ملكه عنها ، فإنه لا يزول بلا خلاف ولأنه يشبه سوائب الجاهلية ، وقد قال الله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } وفي المسألة وجه ثالث . وهو قول أبي علي الطبري في الإفصاح ، وحكاه الأصحاب عنه أنه إن كان قصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى زال ملكه ، وإلا فلا ، والمذهب المنصوص أنه لا يزول مطلقا . قال أصحابنا : ( فإن قلنا ) يزول ، عاد مباحا ، فمن صاده ملكه ( وإن قلنا ) لا يزول لم يجز لغيره أن يصيده إذا عرفه ، فإن قال عند إرساله : أبحته لمن أخذه حصلت الإباحة ، ولا ضمان على من أكله ، لكن لا ينفذ تصرف الآخذ فيه ببيع أو نحوه ، وإذا قلنا بالوجه الثالث فأرسله تقربا إلى الله تعالى فهل يحل اصطياده ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا ، كالعبد المعتق ( وأصحهما ) نعم ، لأنه رجع للإباحة ، ولئلا يصير في معنى سوائب الجاهلية ، والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) لو ألقى كسرة خبز معرضا عنها ، فهل يملكها من أخذها ؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره ، قالوا : وهما مرتبان على إرسال الصيد وأولى بأن لا تملك ، بل تبقى على ملك الملقي . لأن سبب الملك في الصيد اليد وقد أزالها ، ورده إلى الإباحة قال إمام الحرمين : هذا الخلاف في زوال الملك وأما الإباحة فحاصلها لمن أراد أكلها على ظاهر المذهب لأن القرائن الظاهرة كافية في الإباحة هذا لفظ الإمام . قال الرافعي : ويوضحه ما نقل عن الصالحي من التقاط السنابل هذا كلام [ ص: 165 ] الرافعي ( قلت ) الأصح الذي قطع به المصنف في التفسير وغيره من الأصحاب أنه يملك ما تركه الوارث إعراضا ، كالكسرة وغيرها من الطعام والسنابل وأما الذي يصيبه في شيء ونحو ذلك ، ويصح تمزق الأخذ فيه بالتتبع وغيره ، هذا ظاهر قول السلف ، ولم ينقل أنهم منعوا التصرف في شيء من ذلك ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قد سبق في باب أخريات الأطعمة أن الثمار الساقطة من الأشجار إن كانت داخل الجدار لم تحل ، وإن كانت خارجة فكذلك إن لم تجر عاداتهم بإباحتها ، فإن جرت بذلك فهل تجري العادة المطردة مجرى الإباحة ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) تجري وسبق هناك حكم الأكل من مال صديقه ، ومن مال الأجنبي وثماره وزرعه ، والله أعلم .

                                      ولو أعرض عن جلد ميتة فأخذه غيره فدبغه ملكه على المذهب ، لأنه لم يكن مملوكا للأول وإنما كان له اختصاص فضعف بالإعراض ، ولو أعرض عن خمر فأخذها غيره فتخللت عنده . ففيه تفصيل وخلاف سنذكره في آخر كتاب الغصب حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى .

                                      ( فرع ) لو صاد صيدا عليه أثر ملك ، بأن كان مرسوما أو مقرظا أو مخضوبا أو مقصوص الجناح لم يملكه الصائد ، بل هو لقطة ، لأنه يدل على أنه كان مملوكا فأفلت ، ولا ينظر إلى احتمال أنه صاده محرم ففعل به ذلك ثم أرسله لأنه تقدير بعيد ، وهذا كله لا خلاف فيه .

                                      ( فرع ) لو صاد سمكة فوجد في جوفها درة مثقوبة لم تملك الدرة ، بل تكون لقطة ، وإن كانت غير مثقوبة فهي له مع السمكة ، ولو اشترى سمكة فوجد في جوفها درة غير مثقوبة فهي للمشتري ، وإن كانت مثقوبة فهي للبائع إن ادعاها ، كذا ذكر المسألة البغوي ، قال الرافعي : يشبه أن يقال : الدرة للصائد كالكنز الموجود في الأرض يكون لمحييها . [ ص: 166 ] فصل ) إذا تحول بعض حمام إلى برج غيره ، قال أصحابنا : إن كان المتحول ملكا للأول لم يزل ملكه عنه ، ويلزم الثاني رده ، فإن حصل بينهما بيض أو فرخ فهو تبع للأنثى دون الذكر ، وإن ادعى تحول حمامه إلى برج غيره لم يصدق إلا ببينة ، والورع أن يصدقه إلا أن يعلم كذبه . فإن كان المتحول مباحا دخل برج الأول ثم تحول إلى الثاني فعلى الخلاف السابق في دخول الصيد ملكه ( فإن قلنا ) بالأصح : إنه لا يملكه ( والثاني ) إنه يملكه . ومن دخل برجه حمام وشك هل هو مباح أو مملوك ؟ فهو أولى به ، وله التصرف فيه ، لأن الظاهر أنه مباح ، وإن تحقق أنه اختلط بملكه ملك غيره وعسر التمييز فقد قال البغوي : لو اختلطت حمامة واحدة بحماماته فله أن يأكل بالاجتهاد واحدة واحدة . حتى تبقى واحدة . كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمره . والذي حكاه الروياني أنه ليس له أن يأكل واحدة منها حتى يصالح ذلك الغير أو يقاسمه . قال : ولهذا قال بعض مشايخنا ينبغي للورع أن يتجنب طير البروج . وأن يجتنب بناءها . ونقل الإمام وغيره أنه ليس لواحد منهما التصرف في شيء منها ببيع أو هبة لثالث ، لأنه لا يتحقق الملك ولو باع أحدهما أو وهب الآخر صح على أصح الوجهين وتحتمل الجهالة للضرورة ، ولو باع الحمام المختلط كله أو بعضه لثالث ، ولا يعلم واحد منهما عين ماله ، فإن كانت الأعداد معلومة كمائتين ومائة ، والقيمة متساوية ووزعا الثمن على أعدادها صح البيع باتفاق الأصحاب ، وإن جهلا العدد لم يصح البيع ; لأنه لا يعلم كل واحد حصته من الثمن ، فالطريق أن يقول كل واحد : بعتك الحمام الذي في هذا البرج بكذا فيكون الثمن معلوما ، ويحتمل الجهل في المبيع للضرورة .

                                      قال الغزالي في الوسيط : لو تصالحا على شيء صح البيع واحتمل الجهل بقدر المبيع . ويقرب من هذا ما أطلقه الأصحاب من مقاسمتهما . [ ص: 167 ] قال أصحابنا : وقد يجوز للضرورة المسامحة ببعض الشروط المعتبرة في حال الاختيار ، كالكافر إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة ، ومات قبل الاختيار . فإنه يصح اصطلاحهن على القسمة بالتساوي وبالتفاوت مع الجهل بالاستحقاق ، فيجوز أن تصح القسمة أيضا بحسب تراضيهما ، ويجوز أن يقال : إذا قال كل واحد : بعت ما لي من حمام هذا البرج بكذا . والأعداد مجهولة . يصح أيضا مع الجهل بما يستحقه كل واحد منهما . والمقصود أن ينفصل الأمر بحسب ما يتراضيان عليه ، ولو باع أحدهما جميع حمام البرج بإذن الآخر فيكون أصلا في البعض ، ووكيلا في البعض . جاز ، ثم يقتسمان الثمن .

                                      ( فرع ) لو اختلطت حمامة مملوكة أو حمامات بحمامات مباحة محصورة لم يجز الاصطياد منها ولو اختلطت بحمام ناحية جاز الاصطياد في الناحية ، ولا يتغير حكم ما لا يحصر في العادة باختلاط ما ينحصر به ، ولو اختلط حمام أبراج مملوكة لا تكاد تحصر بحمام بلدة أخرى مباحة . ففي جواز الاصطياد منها وجهان ( أصحهما ) الجواز وإليه مال معظم الأصحاب . ومن أهم ما يجب معرفة ضبطه العدد المحصور . فإنه يتكرر في أبواب الفقه ، وقل من ينبه عليه ، قال الغزالي في الإحياء في كتاب الحلال والحرام : تحديد هذا غير ممكن ، فإنما يضبط بالتقريب ، قال : فكل عدد لو اجتمع في صعيد واحد يعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر كالألف ونحوه ، فهو غير محصور ، وما سهل كالعشرة والعشرين فهو محصور . وبين الطرفين أوساط متشابهة تلحق بأحد الطرفين بالظن ، وما وقع فيه الشك استفتي فيه القلب . والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) إذا انصبت حنطته على حنطة غيره ، أو انصب مائعه في مائعه . وجهلا قدرهما فحكمه ما سبق في الحمام المختلط .

                                      ( فرع ) ولو اختلط درهم حرام أو دراهم بدراهمه ولم يتميز [ ص: 168 ] أو دهن بدهن أو غيره من المائعات ونحو ذلك ، قال الغزالي في الإحياء وغيره من أصحابنا : طريقه أن يفصل قدر الحرام فيصرفه إلى الجهة التي يجب صرفه فيها ، ويبقى الباقي له يتصرف فيه بما أراد ، والله تعالى أعلم . ومن هذا الباب ما إذا اختلطت دراهم أو حنطة ونحوها لجماعة ، أو غصب منهم وخلطت ولم تتميز ، فطريقه أن يقسم الجميع بينهم على قدر حقوقهم ، ( وأما ) ما يقوله العوام : اختلاط الحلال بالحرام يحرمه فباطل لا أصل له ، وسيأتي بسط المسألة بأدلتها في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى ، والله سبحانه أعلم .




                                      الخدمات العلمية