الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6187 ) الفصل الثالث : أن العود هو الوطء ، فمتى وطئ لزمته الكفارة ، ولا تجب قبل ذلك ، إلا أنها شرط لحل الوطء ، فيؤمر بها من أراده ليستحله بها ، كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حل المرأة . وحكي نحو ذلك عن الحسن ، والزهري . وهو قول أبي حنيفة . إلا أنه لا يوجب الكفارة على من وطئ ، وهي عنده في حق من وطئ كمن لم يطأ . وقال القاضي وأصحابه : العود العزم على الوطء . إلا أنهم لم يوجبوا الكفارة على العازم على الوطء ، إذا مات أحدهما أو طلق قبل الوطء ، إلا أبا الخطاب ، فإنه قال : إذا مات بعد العزم ، أو طلق ، فعليه الكفارة .

                                                                                                                                            وهذا قول مالك ، وأبي عبيد . وقد أنكر أحمد هذا ، فقال : مالك يقول : إذا أجمع لزمته الكفارة . فكيف يكون هذا ، إذا طلقها بعدما يجمع كان عليه كفارة ، إلا أن يكون يذهب إلى قول طاوس : إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق . ولم يعجب أحمد قول طاوس . وقال أحمد ، في قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } . قال : العود الغشيان ، إذا أراد أن يغشى كفر . واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } . فأوجب الكفارة بعد العود قبل التماس ، وما حرم قبل الكفارة ، لا يجوز كونه متقدما عليها ، ولأنه قصد بالظهار تحريمها ، فالعزم على [ ص: 14 ] وطئها عود فيما قصده ، ولأن الظهار تحريم ، فإذا أراد استباحتها ، فقد رجع في ذلك التحريم ، فكان عائدا .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : العود إمساكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه ; لأن ظهاره منها يقتضي إبانتها ، فإمساكها عود فيما قال . وقال داود : العود ، تكرار الظهار مرة ثانية ; لأن العود في الشيء إعادته . ولنا أن العود فعل ضد قوله ، ومنه العائد في هبته ، هو الراجع في الموهوب ، والعائد في عدته ، التارك للوفاء بما وعد ، والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي عنه . قال الله تعالى : { ثم يعودون لما نهوا عنه } . فالمظاهر محرم للوطء على نفسه ، ومانع لها منه ، فالعود فعله .

                                                                                                                                            وقولهم : إن العود يتقدم التكفير ، والوطء يتأخر عنه . قلنا : المراد بقوله : ثم يعودون . أي يريدون العود ، كقول الله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } . أي أردتم ذلك . وقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } . فإن قيل : فهذا تأويل ، ثم هو رجوع إلى إيجاب الكفارة بالعزم المجرد . قلنا : دليل التأويل ، ما ذكرنا . وأما الأمر بالكفارة عند العزم فإنما أمر بها شرطا للحل ، كالأمر بالطهارة لمن أراد صلاة النافلة ، والأمر بالنية لمن أراد الصيام .

                                                                                                                                            فأما الإمساك فليس بعود ; لأنه ليس بعود في الظهار المؤقت ، فكذلك في المطلق ، ولأن العود فعل ضد ما قاله ، والإمساك ليس بضد له ، وقولهم : إن الظهار يقتضي إبانتها . لا يصح ، وإنما يقتضي تحريمها واجتنابها ، ولذلك صح توقيته ، ولأنه قال : { ثم يعودون لما قالوا } . وثم للتراخي ، والإمساك غير متراخ . وأما قول داود فلا يصح ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أوسا وسلمة بن صخر بالكفارة من غير إعادة اللفظ ، ولأن العود إنما هو في مقوله دون قوله ، كالعود في الهبة والعدة ، والعود لما نهي عنه ، ويدل على إبطال هذه الأقوال كلها أن الظهار يمين مكفرة ، فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها ، وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان ، وتجب الكفارة بذلك كسائر الأيمان ، ولأنها يمين تقتضي ترك الوطء ، فلا تجب كفارتها إلا به ، كالإيلاء .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية