الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              الأعمال بالخواتيم، وفي الحديث: "إذا أراد الله بعبد خيرا عسله " قالوا: وما عسله؟ قال: "يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه " .

                                                                                                                                                                                              وهؤلاء منهم من يوقظ قبل موته بمدة يتمكن فيها من التزود بعمل صالح . يختم به عمره، ومنهم من يوقظ عند حضور الموت فيوفق لتوبة نصوح يموت عليها .

                                                                                                                                                                                              قالت عائشة - رضي الله عنها -: إذا أراد الله بعبد خيرا قيض له ملكا قبل موته بعام [ ص: 308 ] فيسدده وييسره حتى يموت وهو خير ما كان، فيقول الناس: مات فلان خير ما كان .

                                                                                                                                                                                              وخرجه البزار عنها مرفوعا، ولفظه: "إذا أراد الله بعبد خيرا بعث إليه ملكا من عامه الذي يموت فيه فيسدده وييسره، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه، فقال: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فذلك حين يحب لقاء الله ويحب الله لقاءه، وإذا أراد الله بعبد شرا بعث إليه شيطانا من عامه الذي يموت فيه فأغواه، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه، فقال: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده، فذلك حين يبغض لقاء الله، ويبغض الله لقاءه "وفي الدعاء المأثور: "اللهم، اجعل خير عملي خاتمته، وخير عمري آخره"

                                                                                                                                                                                              وفي "المسند" عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال: من تاب قبل موته عاما تيب عليه، ومن تاب قبل موته شهرا تيب عليه، حتى قال: يوما، حتى قال: ساعة، حتى قال: فواقا . قال: قال له إنسان: أرأيت إن كان مشركا فأسلم؟ قال: إنما أحدثكم ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا، عن عبد الرحمن البيلماني، قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحدهم: سمعت رسول الله يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم " قال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول الله [ ص: 309 ] - صلى الله عليه وسلم -قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم " . فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة" قال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه " .

                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - . عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الشيطان قال: وعزتك يا رب، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم . فقال الرب عز وجل: وعزتي وجلالي، لا أزال أكفر لهم ما استغفروني " .

                                                                                                                                                                                              ذكر ابن أبي الدنيا بإسناد له: أن رجلا من ملوك البصرة كان قد تنسك . ثم مال إلى الدنيا والشيطان فبنى دارا وشيدها، وأمر بها ففرشت له ونجدت، واتخذ مأدبة، وصنع طعاما ودعا الناس، فجعلوا يدخلون فيأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويعجبون منه، ويدعون له ويتفرقون، فمكث بذلك أياما حتى فرغ من أمر الناس . ثم جلس في نفر من خاصة إخوانه، فقال: قد ترون سروري بداري هذه، وقد حدثت نفسي أن أتخذ لكل واحد من ولدي مثلها، فأقيموا عندي أياما أستمتع بحديثكم وأشاوركم فيما أريد من هذا البناء لولدي، فأقاموا عنده أياما يلهون ويلعبون ويشاورهم كيف يبني لولده، وكيف يريد أن يصنع، فبينما هم ذات ليلة في لهوهم إذ سمعوا قائلا يقول من أقاصي الدار:

                                                                                                                                                                                              [ ص: 310 ]

                                                                                                                                                                                              يا أيها الباني الناسي منيته . لا تأمنن فإن الموت مكتوب     على الخلائق إن سروا وإن فرحوا .
                                                                                                                                                                                              فالموت حتف لذي الآمال منصوب     لا تبنين ديارا لست تسكنها .
                                                                                                                                                                                              وراجع النسك كيما يغفر الحوب



                                                                                                                                                                                              قال: ففزع من ذلك وفزع أصحابه فزعا شديدا، وراعهم ما سمعوا من ذلك، فقال لأصحابه: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم، قال: فهل تجدون ما أجد؟ قالوا: وما تجد؟ قال: أجد والله مسكة على قلبي ما أراها إلا علة الموت، قالوا: كلا، بل البقاء والعافية، قال: فبكى وقال: أنتم أخلائي وإخواني فما لي عندكم؟ قالوا: مرنا بما أحببت . قال: فأمر بالشراب فأهريق، وبالملاهي فأخرجت، ثم قال: اللهم إني أشهدك ومن حضر من عبادك أني تائب إليك من جميع ذنوبي، نادم على ما فرطت أيام مهلتي، وإياك أسال إن أقلتني أن تتم علي نعمتك بالإنابة إلى طاعتك، وإن أنت قبضتني إليك أن تغفر لي ذنوبي تفضلا منك علي . واشتد به الأمر فلم يزل يقول: الموت والله، الموت والله، حتى خرجت نفسه فكان الفقهاء يرون أنه مات على توبة .

                                                                                                                                                                                              وروى الواحدي في كتاب "قتلى القرآن " بإسناد له، أن رجلا من أشراف أهل البصرة كان منحدرا إليها في سفينة ومعه جارية له، فشرب يوما، وغنته جاريته بعود لها، وكان معهم في السفينة فقير صالح، فقال له: يا فتى تحسن مثل هذا؟ قال: أحسن ما هو أحسن منه، وكان الفقير حسن الصوت . فاستفتح وقرأ: قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة فرمى [ ص: 311 ] الرجل ما بيده من الشراب في الماء، وقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم فتلا عليه: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها الآية، فوقعت من قلبه موقعا، ورمى بالشراب وكسر العود، ثم قال: يا فتى هل هنا فرج قال: نعم . قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم فصاح صيحة عظيمة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات - رحمه الله .

                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي الدنيا بإسناد له أن صالحا المري - رحمه الله - كان يوما في مجلسه يقص على الناس، فقرأ عنده قارئ: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع فذكر صالح النار وحال العصاة فيها، وصفة سياقهم إليها، وبالغ في ذلك وبكى الناس، فقام فتى كان حاضرا من مجلسه، وكان مسرفا على نفسه، فقال: أكل هذا في القيامة؟ قال صالح: نعم، وما هو أكثر منه، لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المريض المدنف، فصاح الفتى: يا لله وا غفلتاه عن نفسي أيام الحياة، وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه وا غفلتاه على تضييع عمري في دار الدنيا ثم استقبل القبلة، وعاهد الله على توبة نصوح، ودعا الله أن يتقبل منه وبكى حتى غشي عليه، فحمل من المجلس صريعا، فمكث صالح وأصحابه يعودونه أياما، ثم مات، فحضره خلق كثير، فكان صالح يذكره في مجلسه كثيرا، ويقول: وبأبي قتيل القرآن; وبأبي قتيل المواعظ والأحزان; فرآه رجل في منامه، فقال: ما صنعت؟ قال: عمتني بركة مجلس صالح فدخلت في [ ص: 312 ] سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء .


                                                                                                                                                                                              من آلمته سياط المواعظ فصاح فلا جناح،     ومن زاد ألمه فمات فدمه مباح .
                                                                                                                                                                                              قضى الله في القتلى قصاص دمائهم     ولكن دماء العاشقين جبار



                                                                                                                                                                                              وبقي ها هنا قسم آخر، وهو أشرف الأقسام وأرفعها، وهو من يفني عمره في الطاعة، ثم ينبه على قرب الأجل، ليجد في التزود ويتهيأ للرحيل بعمل صالح للقاء، ويكون خاتمة للعمل قال ابن عباس : لما نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا جاء نصر الله والفتح نعيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه; فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة . قالت أم سلمة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده " فذكرت ذلك له، فقال: "إني أمرت بذلك " وتلا هذه السورة . وكان من عادته أن يعتكف في كل عام في رمضان عشرا، ويعرض القرآن على جبريل مرة، فاعتكف في ذلك العام عشرين يوما، وعرض القرآن مرتين، وكان يقول: "ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي " ثم حج حجة الوداع، وقال للناس: "خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" . وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع، ثم رجع إلى المدينة فخطب قبل وصوله إليها، وقال: "أيها الناس إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي [ ص: 313 ] فأجيب "، ثم أمر بالتمسك بكتاب الله، ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير - صلى الله عليه وسلم -

                                                                                                                                                                                              إذا كان سيد المحسنين يؤمر أن يختم عمره بالزيادة في الإحسان فكيف يكون حال المسيء . دو بيت:


                                                                                                                                                                                              خذ في جد فقد تولى العمر .     كم ذا التفريط قد تدانى الأمر
                                                                                                                                                                                              أقبل فعسى يقبل منك العذر .     كم تبني كم تنقض كم ذا الغدر



                                                                                                                                                                                              مرض بعض العابدين فوصف له دواء يشربه، فأتي في منامه فقيل له: أتشرب الدواء والحور العين لك تهيأ; فانتبه فزعا، فصلى في ثلاثة أيام . حتى انحنى صلبه، ثم مات في اليوم الثالث . وكان رجل قد اعتزل وتعبد، فرأى في منامه قائلا يقول له: يا فلان ربك يدعوك فتجهز واخرج إلى الحج، ولست عائدا، فخرج إلى الحج فمات في الطريق .

                                                                                                                                                                                              رأى بعض الصالحين في منامه قائلا ينشده:

                                                                                                                                                                                              تأهب للذي لا بد منه .     من الموت الموكل بالعباد
                                                                                                                                                                                              أترضى أن تكون رفيق قوم .     لهم زاد وأنت بغير زاد



                                                                                                                                                                                              خرج ابن ماجه من حديث جابر ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب، فقال في خطبته: "أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا" . [ ص: 314 ] وفي سنده ضعف، فأمر بالمبادرة بالتوبة قبل الموت، وكل ساعة تمر على ابن آدم فإنه يمكن أن تكون ساعة موته، بل كل نفس، كما قيل:


                                                                                                                                                                                              لا تأمن الموت في طرف ولا نفس .     ولو تمنعت بالحجاب والحرس



                                                                                                                                                                                              قال لقمان لابنه: يا بني، لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة .

                                                                                                                                                                                              وقال بعض الحكماء: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل .


                                                                                                                                                                                              إلى الله تب قبل انقضاء من العمر .     أخي ولا تأمن مفاجأة الأمر
                                                                                                                                                                                              ولا تستصمن عن دعائي فإنما .     دعوتك إشفاقا عليك من الوزر
                                                                                                                                                                                              فقد حذرتك الحادثات نزولها . . . ونادتك إلا أن سمعك ذو وقر

                                                                                                                                                                                                  تنوح وتبكي للأحبة إن مضوا . .
                                                                                                                                                                                              ونفسك لا تبكي وأنت على الإثر



                                                                                                                                                                                              قال بعض السلف: أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين، يشير إلى أن المؤمن لا ينبغي أن يصبح ويمسي إلا على توبة، فإنه لا يدري متى يفجأه الموت صباحا أو مساء، فمن أصبح أو أمسى على غير توبة، فهو على خطر، لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب، فيحشر في زمرة الظالمين، قال الله تعالى: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون


                                                                                                                                                                                              تب من خطاياك وابك خشية .     ما أثبت منها عليك في الكتب
                                                                                                                                                                                              أية حال تكون حال فتى .     صار إلى ربه ولم يتب



                                                                                                                                                                                              تأخير التوبة في حال الشباب قبيح، ففي حال المشيب أقبح وأقبح .


                                                                                                                                                                                              نعى لك ظل الشباب المشيب .     ونادتك باسم سواك الخطوب


                                                                                                                                                                                              [ ص: 315 ] فكن مستعدا لداعي الفنا .     فكل الذي هو آت قريب
                                                                                                                                                                                              ألسنا نرى شهوات النفوس .     تفنى وتبقى علينا الذنوب
                                                                                                                                                                                              يخاف على نفسه من يتوب .     فكيف يكن حال من لا يتوب



                                                                                                                                                                                              فإن نزل المرض بالعبد فتأخيره للتوبة حينئذ أقبح من كل قبيح، فإن المرض نذير الموت، وينبغي لمن عاد مريضا أن يذكره التوبة والاستغفار، فلا أحسن من ختام العمل بالتوبة والاستغفار، فإن كان العمل سيئا كان كفارة له، وإن كان حسنا كان كالطابع عليه .

                                                                                                                                                                                              وفي حديث "سيد الاستغفار" المخرج في "الصحيح " أن من قاله إذا أصبح وإذا أمسى، ثم مات من يومه أو ليلته، كان من أهل الجنة، وليكثر في مرضه من ذكر الله عز وجل، خصوصا كلمة التوحيد، فإنه من كانت آخر كلامه دخل الجنة .

                                                                                                                                                                                              وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: "من قال في مرضه: لا إله إلا الله، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن مات من مرضه لم تطعمه النار" . خرجه النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه .

                                                                                                                                                                                              وفي رواية للنسائي: "من قالهن في يوم أو في ليلة أو في شهر، ثم مات في ذلك اليوم أو في تلك الليلة، أو في ذلك الشهر، غفر له ذنبه " . ويروى من حديث حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ختم له بقول لا إله إلا الله دخل الجنة، ومن ختم له [ ص: 316 ] بصيام يوم أراد به وجه الله أدخله الله الجنة، ومن ختم له بإطعام مسكين أراد به وجه الله أدخله الله الجنة" .

                                                                                                                                                                                              كان السلف يرون أن من مات عقيب عمل صالح، كصيام رمضان، أو عقيب حج أوعمرة، أنه يرجى له أن يدخل الجنة، وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت، ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التوحيد .

                                                                                                                                                                                              لما احتضر العلاء بن زياد ، بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كنت والله أحب أن أستقبل الموت بتوبة . قالوا: فافعل رحمك الله، فدعا بطهور فتطهر، ثم دعا بثوب له جديد فلبسه، ثم استقبل القبلة، فأومأ برأسه مرتين أو نحو ذلك، ثم اضطجع ومات .

                                                                                                                                                                                              ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى، وقال: لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون، اللهم إني أستغفرك من تقصيري وتفريطي، وأتوب إليك من جميع ذنوبي، لا إله إلا الله، ثم لم يزل يرددها حتى مات - رحمه الله .

                                                                                                                                                                                              وقال عمرو بن العاص - رحمه الله - عند موته: اللهم أمرتنا فعصينا . ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا عفوك، لا إله إلا الله، ثم رددها حتى مات . وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - عند موته: أجلسوني، فأجلسوه . فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحد النظر، فقالوا له: إنك تنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين . قال: إني أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن، ثم قبض رحمة الله عليه . وسمعوا تاليا يتلو: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين


                                                                                                                                                                                              يا غافل القلب عن ذكر المنيات .     عما قليل ستثوي بين أموات
                                                                                                                                                                                              فاذكر محلك من قبل الحلول به .     وتب إلى الله من لهو ولذات
                                                                                                                                                                                              إن الحمام له وقت إلى أجل .     فاذكر مصائب أيام وساعات
                                                                                                                                                                                              لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها .     قد حان للموت يا ذا اللب أن ياتي



                                                                                                                                                                                              التوبة التوبة قبل أن يصل إليكم من الموت النوبة، فيحصل المفرط على الندم والخيبة .

                                                                                                                                                                                              الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة، الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة . ما أحسن قلق التواب! ما أحلى قدوم الغياب! ما أجمل وقوفهم بالباب!


                                                                                                                                                                                              أسأت ولم أحسن وجئتك تائبا .     وأنى لعبد من مواليه مهرب
                                                                                                                                                                                              يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه .     فما أحد منه على الأرض أخيب



                                                                                                                                                                                              من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها، فما تنتظر إلا الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر غير الموت، فقبيح منه الإصرار على الذنب .


                                                                                                                                                                                              أى شيء تريد مني الذنوب .     شغفت بي فليس عني تغيب
                                                                                                                                                                                              ما يضر الذنوب لو أعتقتني .     رحمة بي فقد علاني المشيب



                                                                                                                                                                                              ولكن توبة الشاب أحسن وأفضل . في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا : "إن الله يحب الشاب التائب " . قال عمير بن هانئ : تقول التوبة للشاب: أهلا ومرحبا، وتقول للشيخ: نقبلك على ما كان منك . [ ص: 318 ] الشاب ترك المعصية مع قوة الداعي إليها، والشيخ قد ضعفت شهوته وقل داعيه فلا يستويان، وفي بعض الآثار، يقول الله عز وجل: أيها الشاب . التارك شهوته، المبتذل شبابه لأجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي .

                                                                                                                                                                                              قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إن الذين يشتهون المعاصي ولا يعملون بها أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم كم بين حال الذي قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي وبين شيخ عنين يدعى لمثل ذلك فيجيب .

                                                                                                                                                                                              كان عمر يعس بالمدينة فسمع امرأة غاب عنها زوجها تقول:


                                                                                                                                                                                              تطاول هذا الليل واسود جانبه .     وأرقني أن لا خليل ألاعبه
                                                                                                                                                                                              فوالله لولا الله لا شيء غيره .     لحرك من هذا السرير جوانبه
                                                                                                                                                                                              ولكن تقوى الله عن ذا تصدني .     وحفظا لبعلي أن تنال مراكبه
                                                                                                                                                                                              ولكنني أخشى رقيبا موكلا .     بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه



                                                                                                                                                                                              فقال لها عمر : يرحمك الله، ثم بعث إلى زوجها فأمره أن يقدم عليها . وأمر أن لا يغيب أحد عن امرأته أكثر من أربعة أشهر وعشرا .

                                                                                                                                                                                              الشيخ قد تركته الذنوب، فلا حمد له على تركها . كما قيل:


                                                                                                                                                                                              تاركك الذنب فتاركته .     بالفعل والشهوة في القلب
                                                                                                                                                                                              فالحمد للذنب على تركه .     لا لك في تركك للذنب



                                                                                                                                                                                              أما تستحي منا لما أعرضت لذات الدنيا عنك فلم يبق لك فيها رغبة . وصرت من سقط المتاع لا حاجة لأحد فيك، جئت إلى بابنا فقلت: أنا [ ص: 319 ] تائب، ومع هذا فكل من أوى إلينا آويناه، وكل من استجار بنا أجرناه، ومن تاب إلينا أحببناه، أبشر، فربما يكون الشيب شافعا لصاحبه من العقوبات .

                                                                                                                                                                                              مات شيخ كان مفرطا، فرؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك، قال: قال لي: لولا أنك شيخ لعذبتك .

                                                                                                                                                                                              وقف شيخ بعرفة والناس يضجون بالدعاء، وهو ساكت، ثم قبض على لحيته، وقال: يا رب، شيخ يا رب، شيخ يرجو رحمتك .


                                                                                                                                                                                              لما أتونا والشيب شافعهم .     وقد توالى عليهم الخجل
                                                                                                                                                                                              قلنا لسود الصحائف انقلبي .     بيضا فإن الشيوخ قد قبلوا



                                                                                                                                                                                              كان بعض الصالحين يقول:


                                                                                                                                                                                              إن الملوك إذا شابت عبيدهم .     في رقهم عتقوهم عتق أبرار
                                                                                                                                                                                              وأنت يا خالقي أولى بذا كرما .     قد شبت في الرق فأعتقني من النار



                                                                                                                                                                                              أيها العاصي، ما يقطع من صلاحك الطمع، ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلا لتقع، إذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة، قالت لك ملائكة الرحمة: مرحبا وأهلا، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا، فقل لهم: كلا، ذاك خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلا: يا من سود كتابه بالسيئات قد آن لك بالتوبة أن تمحو . يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو .


                                                                                                                                                                                              يا نداماي صحا القلب صحا .     فاطردوا عني الصبا والمرحا
                                                                                                                                                                                              زجر الوعظ فؤادي فارعوى .     وأفاق القلب مني وصحا
                                                                                                                                                                                              هزم العزم جنودا للهوى .     فاسدي لا تعجبوا إن صلحا


                                                                                                                                                                                              [ ص: 320 ] بادروا التوبة من قبل الردى .     فمناديه ينادينا الوحا



                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية