الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            السابع والعشرون : كأنه تعالى يقول : يا محمد ألست قد نزلت عليك : ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ) [ البقرة : 200 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إن واحدا لو نسبك إلى والدين لغضبت ولأظهرت الإنكار ولبالغت فيه ، حتى قلت : " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " فإذا لم تسكت عند التشريك في الولادة ، فكيف سكت عند التشريك في العبادة ؟ بل أظهر الإنكار ، وبالغ في التصريح به ، و ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن والعشرون : كأنه تعالى يقول : يا محمد ألست قد أنزلت عليك : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ) [ النحل : 17 ] فحكمت بأن من سوى بين الإله الخالق وبين الوثن الجماد في المعبودية لا يكون عاقلا بل يكون مجنونا ، ثم إني أقسمت وقلت : ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) [ القلم : 3 ] والكفار يقولون : إنك مجنون ، فصرح برد مقالتهم فإنها تفيد براءتي عن عيب الشرك ، وبراءتك عن عيب الجنون و ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التاسع والعشرون : أن هؤلاء الكفار سموا الأوثان آلهة ، والمشاركة في الاسم لا توجب المشاركة في المعنى ، ألا ترى أن الرجل والمرأة يشتركان في الإنسانية حقيقة ، ثم القيمية كلها حظ الزوج ؛ لأنه أعلم وأقدر ، ثم من كان أعلم وأقدر كان له كل الحق في القيمية ، فمن لا قدرة له ولا علم البتة كيف يكون له حق في القيومية ، بل ههنا شيء آخر : وهو أن امرأة لو ادعاها رجلان فاصطلحا عليها لا يجوز ، ولو أقام كل واحد منهما بينة على أنها زوجته لم يقض لواحد منهما ، والجارية بين اثنين لا تحل لواحد منهما ، فإذا لم يجز حصول زوجة لزوجين ، ولا أمة بين موليين في حل الوطء فكيف يعقل عابد واحد بين معبودين ؟ بل من جوز أن يصطلح الزوجان على أن تحل الزوجة لأحدهما شهرا ، ثم الثاني شهرا آخر كان كافرا ، فمن جوز الصلح بين الإله والصنم ألا يكون كافرا فكأنه تعالى يقول لرسوله : إن هذه المقالة في غاية القبح فصرح بالإنكار وقل : ( ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثلاثون : كأنه تعالى يقول : أنسيت أني لما خيرت نساءك حين أنزلت عليك : ( قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ) [ الأحزاب : 28 ] إلى قوله : ( أجرا عظيما ) [ الأحزاب : 29 ] ثم خشيت من عائشة أن تختار الدنيا ، فقلت لها : لا تقولي شيئا حتى تستأمري أبويك ، فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي ، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ! فناقصة العقل ما توقفت فيما يخالف رضاي أتتوقف فيما يخالف رضاي وأمري ؟ مع أني جبار السماوات والأرض : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الحادي والثلاثون : كأنه تعالى يقول : يا محمد ألست أنت الذي قلت : من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يوقفن مواقف التهم ، وحتى إن بعض المشايخ قال لمريده الذي يريد أن يفارقه : لا تخف السلطان قال : ولم ؟ قال : لأنه يوقع الناس في أحد الخطأين ، وإما أن يعتقدوا أن السلطان متدين ؛ لأنه يخالطه العالم الزاهد ، أو يعتقدوا أنك فاسق مثله ، وكلاهما خطأ ، فإذا ثبت أنه يجب البراءة عن موقف التهم فسكوتك يا محمد عن هذا الكلام يجر إليك تهمة الرضا بذلك ، لا سيما وقد سبق أن الشيطان ألقى فيما بين قراءتك : تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، فأزل عن نفسك هذه التهمة و ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) [ ص: 132 ]

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني والثلاثون : الحقوق في الشاهد نوعان حق من أنت تحت يده ، وهو مولاك ، وحق من هو تحت يدك وهو الولد ، ثم أجمعنا على أن خدمة المولى مقدمة على تربية الولد ، فإذا كان حق المولى المجازي مقدما ، فبأن يكون حق المولى الحقيقي مقدما كان أولى ، ثم روي أن عليا عليه السلام استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في التزوج بابنة أبي جهل فضجر ، وقال : لا آذن لا آذن لا آذن إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويسرني ما يسرها ، والله لا يجمع بين بنت عدو الله ، وبنت حبيب الله ، فكأنه تعالى يقول : صرحت هناك بالرد وكررته على سبيل المبالغة رعاية لحق الولد ، فههنا أولى أن تصرح بالرد ، وتكرره رعاية لحق المولى فقل : ( ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) ولا أجمع في القلب بين طاعة الحبيب وطاعة العدو .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث والثلاثون : يا محمد ألست قلت لعمر : رأيت قصرا في الجنة ، فقلت : لمن ؟ فقيل : لفتى من قريش ، فقلت : من هو ؟ فقالوا : عمر فخشيت غيرتك فلم أدخلها حتى قال عمر : أوأغار عليك يا رسول الله ، فكأنه تعالى قال : خشيت غيرة عمر فما دخلت قصره أفما تخشى غيرتي في أن تدخل قلبك طاعة غيري ، ثم هناك أظهرت الامتناع فههنا أيضا أظهر الامتناع و ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع والثلاثون : أترى أن نعمتي عليك دون نعمة الوالدة ؟ ألم أربك ؟ ألم أخلقك ؟ ألم أرزقك ؟ ألم أعطك الحياة والقدرة والعقل والهداية والتوفيق ؟ ثم حين كنت طفلا عديم العقل وعرفت تربية الأم فلو أخذتك امرأة أجمل وأحسن وأكرم من أمك لأظهرت النفرة ولبكيت ولو أعطتك الثدي لسددت فمك تقول لا أريد غير الأم ؛ لأنها أول المنعم علي ، فههنا أولى أن تظهر النفرة ، فتقول : لا أعبد سوى ربي ؛ لأنه أول منعم علي فقل : ( ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس والثلاثون : نعمة الإطعام دون نعمة العقل والنبوة ، ثم قد عرفت أن الشاة والكلب لا ينسيان نعمة الإطعام ولا يميلان إلى غير من أطعمهما فكيف يليق بالعاقل أن ينسى نعمة الإيجاد والإحسان ؟ فكيف في حق أفضل الخلق : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس والثلاثون : مذهب الشافعي أنه يثبت حق الفرقة بواسطة الإعسار بالنفقة فإذا لم تجد من الأنصار تربية حصلت لك حق الفرقة لو كنت متصلا بها ، ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) فبتقدير أن كنت متصلا بها ، كان يجب أن تنفصل عنها وتتركها ، فكيف وما كنت متصلا بها ؟ أيليق بك أن تقرب الاتصال بها ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            السابع والثلاثون : هؤلاء الكفار لفرط حماقتهم ظنوا أن الكثرة في الإلهية كالكثرة في المال يزيد به الغنى وليس الأمر كذلك بل هو كالكثرة في العيال تزيد به الحاجة فقل : يا محمد : لي إله واحد أقوم له في الليل وأصوم له في النهار ، ثم بعد لم أتفرغ من قضاء حق ذرة من ذرات نعمه ، فكيف ألتزم عبادة آلهة كثيرة : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون )

                                                                                                                                                                                                                                            الثامن والثلاثون : أن مريم عليها السلام لما تمثل لها جبريل عليه السلام : ( قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ) [ مريم : 18 ] فاستعاذت أن تميل إلى جبريل دون الله أفتستجيز مع كمال رجوليتك أن تميل إلى الأصنام : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون )

                                                                                                                                                                                                                                            التاسع والثلاثون : مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت حق الفرقة بالعجز عن النفقة ولا بالعنة الطارئة يقول : لأنه كان قيما فلا يحسن الإعراض عنه مع أنه تعيب ، فالحق سبحانه يقول : كنت قيما ولم أتعيب ، فكيف يجوز الإعراض عني : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الأربعون : هؤلاء الكفار كانوا معترفين بأن الله خالقهم : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] وقال في موضع آخر : ( أروني ماذا خلقوا من الأرض ) [ فاطر : 40 ] فكأنه تعالى يقول : [ ص: 133 ] هذه الشركة إما أن تكون مزارعة وذلك باطل ؛ لأن البذر مني والتربية والسقي مني ، والحفظ مني ، فأي شيء للصنم ، أو شركة الوجوه وذلك أيضا باطل أترى أن الصنم أكثر شهرة وظهورا مني ، أو شركة الأبدان وذلك أيضا باطل ؛ لأن ذلك يستدعي الجنسية ، أو شركة العنان ، وذلك أيضا باطل ؛ لأنه لا بد فيه من نصاب فما نصاب الأصنام ، أو يقول : ليس هذه من باب الشركة لكن الصنم يأخذ بالتغلب نصيبا من الملك ، فكأن الرب يقول : ما أشد جهلكم ، إن هذا الصنم أكثر عجزا من الذبابة : ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ) [ الحج : 73 ] فأنا أخلق البذر ثم ألقيه في الأرض ، فالتربية والسقي والحفظ مني ، ثم إن من هو أعجز من الذبابة يأخذ بالقهر والتغلب نصيبا مني ، ما هذا بقول يليق بالعقلاء : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الحادي والأربعون : أنه لا ذرة في عالم المحدثات إلا وهي تدعو العقول إلى معرفة الذات والصفات ، وأما الدعاة إلى معرفة أحكام الله فهم الأنبياء عليهم السلام ، ولما كان كل بق وبعوضة داعيا إلى معرفة الذات والصفات قال : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ) [ البقرة : 26 ] ذلك لأن هذه البعوضة بحسب حدوث ذاتها وصفاتها تدعو إلى قدرة الله ، وبحسب تركيبها العجيب تدعو إلى علم الله وبحسب تخصيص ذاتها وصفاتها بقدر معين تدعو إلى إرادة الله ، فكأنه تعالى يقول : مثل هذا الشيء كيف يستحيا منه ؟ روي أن عمر رضي الله عنه كان في أيام خلافته دخل السوق فاشترى كرشا وحمله بنفسه فرآه علي من بعيد فتنكب علي عن الطريق فاستقبله عمر ، وقال له : لم تنكبت عن الطريق ؟ فقال علي : حتى لا تستحيي ، فقال : وكيف أستحيي من حمل ما هو غذائي ؟ فكأنه تعالى يقول : إذا كان عمر لا يستحيي من الكرش الذي هو غذاؤه في الدنيا ، فكيف أستحيي عن ذكر البعوض الذي يعطيك غذاء دينك ؟ ثم كأنه تعالى يقول : يا محمد إن نمروذ لما ادعى الربوبية صاح عليه البعوض بالإنكار ، فهؤلاء الكفار لما دعوك إلى الشرك أفلا تصيح عليهم ! أفلا تصرح بالرد عليهم : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) وإن فرعون لما ادعى الإلهية فجبريل ملأ فاه من الطين فإن كنت ضعيفا فلست أضعف من بعوضة نمروذ ، وإن كنت قويا فلست أقوى من جبريل ، فأظهر الإنكار عليهم و ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني والأربعون : كأنه تعالى يقول : يا محمد : ( قل ) بلسانك : ( لا أعبد ما تعبدون ) واتركه قرضا علي فإني أقضيك هذا القرض على أحسن الوجوه ، ألا ترى أن النصراني إذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله فأقول أنا لا أكتفي بهذا ما لم تصرح بالبراءة عن النصرانية ، فلما أوجبت على كل مكلف أن يتبرأ بصريح لسانه عن كل دين يخالف دينك فأنت أيضا أوجب على نفسك أن تصرح برد كل معبود غيري فقل : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث والأربعون : أن موسى عليه السلام كان في طبعه الخشونة فلما أرسل إلى فرعون قيل له : ( فقولا له قولا لينا ) [ طه : 44 ] وأما محمد عليه السلام فلما أرسل إلى الخلق أمر بإظهار الخشونة تنبيها على أنه في غاية الرحمة ، فقيل له : ( قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية