الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
في جواب ابن عباس السائل عن تقديم العمرة على الحج .

فإن قيل : سئل ابن عباس وقيل له : كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله سبحانه يقول : وأتموا الحج والعمرة لله فقال : كيف تقرءون الدين قبل الوصية أو الوصية قبل الدين ؟ قالوا : الوصية ، قال : فبأيهما تبدءون ؟ قالوا : بالدين ، قال : فهو ذاك . فلولا أن في لسانهم الترتيب في الفعل على حسب وجوده في اللفظ لما سألوه عن ذلك . قيل له : كيف يحتج بقول هذا السائل وهو قد جهل ما فيه الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة فيه ، وهو قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وهذا اللفظ لا محالة يوجب ترتيب فعل الحج على العمرة وتقديمها عليه ، فمن جهل هذا لم ينكر منه الجهل بحكم اللفظ في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله وما يدري هذا القائل أن هذا السائل كان من أهل اللغة ، وعسى أن يكون ممن أسلم من العجم ولم يكن من أهل المعرفة باللسان ؛ وأيهما أولى قول ابن عباس في أن ترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل ، أو قول هذا السائل ؟ فلو لم يكن في إسقاط قول القائلين بالترتيب إلا قول ابن عباس لكان كافيا مغنيا .

فإن قيل : قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابدءوا بما بدأ الله به ، وقال تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فقوله : ابدءوا بما بدأ الله به أمر يقتضي التبدئة بما بدأ الله به في اللفظ والحكم ، وقوله عز وجل : فاتبع قرآنه لزوم في عموم اتباعه مرتبا إذا ورد اللفظ كذلك . قيل له : أما قوله : ابدءوا بما بدأ الله به فإنما ورد في شأن الصفا والمروة ، فذكر بعضهم القصة على وجهها ، وحفظ بعضهم ذكر السبب واقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم : ابدءوا بما بدأ الله به وغير جائز لنا أن نجعلهما حديثين ونثبت من النبي صلى الله عليه وسلم القول في حالين إلا بدلالة توجب ذلك .

وأيضا فنحن نبدأ بما بدأ الله به ، وإنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في مراد الله من التبدئة بالفعل إذا بدأ به في اللفظ ، فالواجب أن نثبت أن الله قد أراد ترتيب الحكم حتى نبدأ به . وكذلك الجواب في قوله : فاتبع قرآنه لأن اتباع قرآنه أن نبدأ به على ترتيبه ونظامه ، وواجب أن نبدأ بحكم القرآن على حسب مراده من ترتيب أو جمع وغيره ؛ وأنت متى أوجبت الترتيب فيما لا يقتضي المراد ترتيبه فلم تتبع قرآنه ، وترتيب [ ص: 373 ] اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل .

فإن قيل : إذا كان القرآن اسما للتأليف والحكم جميعا فواجب علينا اتباعه في الأمرين . قيل له : القرآن اسم للمتلو حكما كان أو خبرا ، فعلينا اتباعه في تلاوته ؛ فأما مراد ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ فإن المرجع فيه إلى مقتضى اللغة وليس في اللغة إيجاب ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ في المأمور به ، ألا ترى أن كثيرا من القرآن قد نزل بأحكام ثم نزلت بعده أحكام أخر ولم يوجب تقديم تلاوته تقديم فعله على ما نزل بعده ؟ وقد علمنا أنه غير جائز تغيير نظم القرآن والسور والآي عما هي عليه ، وليس يوجب ذلك ترتيب الأحكام المذكورة فيها حسب ترتيب التلاوة ، فبان بذلك سقوط هذا السؤال .

فإن قيل : قد أثبت الترتيب بالواو في قول الرجل لامرأته : " أنت طالق وطالق وطالق " قبل الدخول بها ، فأثبتها بالأولى ولم توقع الثانية والثالثة ، فجعلت " الواو " مرتبة بحكم اللفظ ، فكذلك قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم يلزمك إيجاب الترتيب في غسل هذه الأعضاء حسب ما في نظام التلاوة من الترتيب . قيل له : لم نوقع الأولى قبل الثانية في مسألة الطلاق لما ذكرت من كون ( الواو ) مقتضية للترتيب ، وإنما أوقعنا الأولى قبل الثانية لأنه أوقعها غير معلقة بشرط ولا مضافة إلى وقت ، وحكم الطلاق إذا حصل هكذا أن يقع غير منتظر به حال أخرى ، فلما وقعت الأولى لأنه قد بدأ بها في اللفظ ثم أوقع الثانية صادفتها الثانية وليست هي بزوجة فلم تلحقها ؛ وأما قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم فلم يقع به غسل الوجه قبل اليد ولا اليد قبل المسح ؛ لأن غسل بعض هذه الأعضاء لا يغني ولا يتعلق به حكم إلا بغسل الجميع ، فصار غسل الجميع موجبا معا بحكم اللفظ ، فلم يقتض اللفظ الترتيب ، ألا ترى أنه لو علق الطلاق الأول والثاني والثالث بشرط فقال : ( أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار ) لم يقع منه شيء إلا بالدخول ؟ لأنه شرط في كل واحدة ما شرطه في الأخرى من الدخول ، كما شرط في غسل كل واحد من الأعضاء غسل الأعضاء الأخر ؛ ولا يختلف أهل العلم في رجل قال لامرأته : ( إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق ) فدخلت الثانية ثم الأولى أنها تطلق ، ولم يكن قوله : ( هذه وهذه ) موجبا لتقديم الأولى في الشرط الذي علق به وقوع الطلاق .

فإن قيل : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه و ( ثم ) تقتضي الترتيب بلا خلاف .

قيل له : لا يخلو [ ص: 374 ] قائل ذلك من أن يكون متكذبا أو جاهلا ، وأكثر ظني أن قائله فيه متكذب وقد تعمد ذلك ؛ لأن هذا إنما هو حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع ، وقد روي من طرق كثيرة وليس في شيء منها ما ذكر من الترتيب وعطف الأعضاء بعضها على بعض ب ( ثم ) وإنما أكثر ما فيه : يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين وقال في بعضها : حتى يضع الطهور مواضعه وذلك يقتضي جواز ترك الترتيب ، وأما عطفه ب ( ثم ) فما رواه أحد ولا ذكره بإسناد ضعيف ولا قوي . وعلى أنه لو روي ذلك في الحديث لم يجز الاعتراض به على القرآن في إثبات الزيادة فيه وإيجاب نسخه ، فإذ قد ثبت أنه ليس في القرآن إيجاب الترتيب فغير جائز إثباته بخبر الواحد لما وصفنا

التالي السابق


الخدمات العلمية