الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال الله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا قال أبو بكر : الجنابة اسم شرعي يفيد لزوم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلا بعد الاغتسال فمن كان مأمورا باجتناب ما ذكرنا من الأمور موقوف الحكم على الاغتسال فهو جنب ، وذلك إنما يكون بالإنزال على وجه الدفق والشهوة أو الإيلاج في أحد السبيلين من الإنسان ، ويستوي فيه الفاعل والمفعول به .

وينفصل حكم الجنابة من حكم الحيض والنفاس وإن كان الحيض والنفاس يحظران ما تحظره الجنابة مما قدمنا ، بأن الحيض والنفاس يحظران الوطء أيضا ، ووجود الغسل لا يطهرهما أيضا ما دامت حائضا أو نفساء ، والغسل يطهر الجنب ولا تحظر عليه الجنابة الوطء . وإنما سمي جنبا لما لزم من اجتناب ما وصفنا إلى أن يغتسل فيطهره الغسل . والجنب اسم يطلق على الواحد وعلى الجماعة ، وذلك لأنه مصدر ، كما قالوا " رجل عدل وقوم عدل " و " رجل زور وقول زور " من الزيارة ، وتقول منه : ( أجنب الرجل وتجنب واجتنب ) والمصدر الجنابة والاجتناب ؛ فالجنابة المذكورة في هذا الموضع هي البعد والاجتناب لما وصفنا .

وقال الله تعالى : والجار ذي القربى والجار الجنب يعني : البعيد منه نسبا ؛ فصارت الجنابة في الشرح اسما للزوم اجتناب ما وصفنا من الأمور ، وأصله التباعد عن الشيء ، وهو مثل الصوم قد صار اسما في الشرع للإمساك عن أشياء معلومة وقد كان أصله في اللغة الإمساك فقط واختص في الشرع بما قد علم وقوعه عليه ، ونظائره من الأسماء الشرعية المنقولة من اللغة إليها ، فكان المعقول بها ما استقرت عليه أحكامها [ ص: 375 ] في الشرع ؛ فأوجب الله تعالى على من حصلت له هذه السمة الطهارة بقوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا وقوله في آية أخرى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا

وقال : وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان روي أنهم أصابتهم جنابة ، فأنزل الله مطرا فأزالوا به أثر الاحتلام .

والمفروض من غسل الجنابة إيصال الماء بالغسل إلى كل موضع يلحقه حكم التطهير من بدنه ، لعموم قوله : فاطهروا وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسنون الغسل ، فيما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا علي بن محمد بن عبد الملك قال : حدثنا محمد بن مسدد قال : حدثنا عبد الله بن داود عن الأعمش عن سالم عن كريب قال : حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة قالت : وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا يغتسل من الجنابة ، فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثا ، ثم صب على فرجه بشماله ، ثم ضرب بيده الأرض فغسلها ، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ، ثم صب على رأسه وجسده ، ثم تنحى ناحية فغسل رجليه ، فناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده وكذلك الغسل من الجنابة عند أصحابنا . والوضوء ليس بفرض في الجنابة ، لقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا وإذا اغتسل فقد تطهر وقضى عهدة الآية .

وقال تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فأباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء ؛ فمن شرط في صحته مع وجود الغسل وضوءا فقد زاد في الآية ما ليس فيها ، وذلك غير جائز لما بينا فيما سلف .

فإن قيل : قال الله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية ، وذلك عموم في سائر من قام إليها . قيل له : فالجنب حين غسل سائر جسده فهو غاسل لهذه الأعضاء فقد قضى عهدة الآية لأنه متوضئ مغتسل ، فهو إن لم يفرد الوضوء قبل الاغتسال فقد أتى بالغسل على الوضوء لأنه أعم منه .

فإن قيل : توضأ النبي صلى الله عليه وسلم قبل الغسل .

قيل له : هذا يدل على أنه مستحب مندوب إليه ؛ لأن ظاهر فعله لا يقتضي الإيجاب .

واختلف الفقهاء في وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والثوري : ( هما فرض فيه ) . وقال مالك والشافعي : ( ليسا بفرض فيه ) . وقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا عموم في إيجاب تطهير سائر ما يلحقه حكم التطهير من البدن ، [ ص: 376 ] فلا يجوز ترك شيء منه .

فإن قيل : من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمى متطهرا فقد فعل ما أوجبته الآية .

قيل له : إنما يكون مطهرا لبعض جسده ، وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع ، فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ ، ألا ترى أن قوله تعالى : فاقتلوا المشركين عموم في سائرهم وإن كان الاسم قد يتناول ثلاثة منهم ؟ كذلك ما وصفنا ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم ؛ لأن الاسم يتناولهم ؛ إذ كان العموم شاملا للجميع ، فكذلك قوله تعالى : فاطهروا عموم في سائر البدن فلا يجوز الاقتصار على بعضه .

فإن قيل : قوله : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا يقتضي جوازه مع تركها لوقوع اسم المغتسل عليه . قيل له : إذا كان قوله : فاطهروا يقتضي تطهير داخل الفم والأنف فالواجب علينا استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة ، وغير جائز الاقتصار بهما على أخصهما حكما ؛ إذ فيه تخصيص بغير دلالة ؛ ألا ترى أن من تمضمض واستنشق يسمى مغتسلا أيضا ؟ فليس في ذكره الاغتسال نفي لمقتضى قوله عز وجل : وإن كنتم جنبا فاطهروا

ويدل عليه من جهة السنة حديث الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة .

وروى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا من النار قال علي : فمن ثم عاديت شعري . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا أحمد بن النضر بن بحر وأحمد بن عبد الله بن سابور والعمري قالوا : حدثنا بركة بن محمد الحلبي قال : حدثنا يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة . وأما قوله : تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة ففيه الدلالة من وجهين على ما ذكرنا ، أحدهما : أن الأنف فيه شعر وبشرة والفم فيه بشرة فاقتضى الخبر وجوب غسلهما ، وحديث علي أيضا يوجب غسل داخل الأنف لأن فيه شعرا .

فإن قيل : إن العين قد يكون فيها شعر . قيل له : هو شاذ نادر ، والأحكام إنما تتعلق بالأعم الأكثر ، ولا حكم للشاذ النادر فيها ؛ وعلى أنا خصصناه بالإجماع ، ومع ذلك فإن الكلام في وجه دلالة التخصيص خروج عن المسألة ، والعموم سالم لنا فيما لم تقم دلالة خصوصه .

فإن قيل : إن [ ص: 377 ] ابن عمر كان يدخل الماء عينيه في الجنابة . قيل له : لم يكن يفعله على وجه الوجوب ، وقد كان مصعبا على نفسه في أمر الطهارة يفعل فيها ما لا يراه واجبا ، قد كان يتوضأ لكل صلاة ويفعل أشياء على وجه الاحتياط لا على وجه الوجوب ؛ وحديث يوسف بن أسباط الذي ذكرنا فيه نص على إيجابها فرضا . فإن قيل : ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث فرضا ، وأنت لا تقول به .

قيل : ظاهره يقتضي كون الثلاث فرضا ، وقد قامت الدلالة على سقوط فرض الاثنين وبقي حكم اللفظ فيما وراءه ؛ ويدل عليه من جهة النظر أن المفروض في غسل الجنابة غسل الظاهر والباطن مما يلحقه حكم التطهير ، بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر لأنها يلحقها حكم التطهير لو أصابتها نجاسة ، فكذلك يلزمه تطهير داخل الفم والأنف لهذه العلة

فإن قيل فيجب على هذا غسل داخل العينين لهذه العلة . قيل له : لو أصاب داخل عينيه نجاسة لم يلزمه تطهيرها ، هكذا كان يقول أبو الحسن ؛ وأيضا فليس في داخل العينين بشرة ، وإنما يلزم في الجنابة تطهير البشرة .

فإن قيل : لما كان داخل العينين باطنا ولم يلزم تطهيره وجب أن يكون كذلك حكم داخل الأنف والفم . قيل له : وكيف صار داخل العينين باطنا ؟ فإن أردت به أنه ينطبق عليهما الجفن ، فذلك موجود في الإبطين لأنهما ينطبق عليهما العضد ولا خلاف في لزوم تطهيرهما في الجنابة . ولا يلزمنا إيجاب المضمضة والاستنشاق في الوضوء لأجل إيجابنا لهما في الجنابة وذلك لأن الآية في إيجاب الوضوء إنما اقتضت غسل الوجه ، والوجه هو ما واجهك ، فلم يتناول داخل الأنف والفم ، والآية في غسل الجنابة قد أوجبت تطهير سائر البدن من غير خصوص ، فاستعملنا الآيتين على ما وردتا .

والفرق أيضا بينهما من جهة النظر أن الواجب في الوضوء غسل الظاهر دون الباطن ، بدلالة أنه لا يلزمنا فيه إبلاغ الماء أصول الشعر ؛ فلذلك لم يلزم تطهير الفم وداخل الأنف ، وفي الجنابة عليه غسل الباطن من البشرة بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر ؛ وبهذا نجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم عشر من الفطرة خمس في الرأس ، وخمس في البدن فذكر في الرأس المضمضة والاستنشاق ، فنحمله على أنه مسنون في الطهارة الصغرى ونفرق بينه وبين الجنابة بما ذكرنا ؛ والله أعلم

( تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله باب التيمم )

التالي السابق


الخدمات العلمية