الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        2894 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى هنيا على الحمى فقال يا هني اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين أفتاركهم أنا لا أبا لك فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم إنها لبلادهم فقاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هنيا ) بالنون مصغر بغير همز وقد يهمز ، وهذا المولى لم أر من ذكره في الصحابة مع إدراكه ، وقد وجدت له رواية عن أبي بكر وعمر وعمرو بن العاص ، روى عنه ابنه عمير وشيخ من الأنصار وغيرهما ، وشهد صفين مع معاوية ثم تحول إلى علي لما قتل عمار ، ثم وجدت في كتاب مكة لعمر بن شبة أن آل هني ينتسبون في همدان وهم موالي آل عمر ، انتهى . ولولا أنه كان من الفضلاء النبهاء الموثوق بهم لما استعمله عمر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( على الحمى ) ، بين ابن سعد من طريق عمير بن هني عن أبيه أنه كان على حمى الربذة ، وقد تقدم بعض ذلك في كتاب الشرب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( اضمم جناحك عن المسلمين ) أي اكفف يدك عن ظلمهم ، وفي رواية معن بن عيسى عن مالك عند الدارقطني في الغرائب " اضمم جناحك للناس " وعلى هذا فمعناه استرهم بجناحك ، وهو كناية عن الرحمة والشفقة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( واتق دعوة المسلمين ) في رواية الإسماعيلي والدارقطني ، وأبي نعيم " دعوة المظلوم " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وأدخل ) بهمزة مفتوحة ومعجمة مكسورة ، والصريمة بالمهملة مصغر وكذا الغنيمة أي صاحب القطعة القليلة من الإبل والغنم ، ومتعلق الإدخال محذوف والمراد المرعى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وإياي ) فيه تحذير المتكلم نفسه ، وهو شاذ عند النحاة ، كذا قيل ، والذي يظهر أن الشذوذ في لفظه ، وإلا فالمراد في التحقيق إنما هو تحذير المخاطب ، وكأنه بتحذير نفسه حذره بطريق الأولى فيكون أبلغ ، ونحوه نهي المرء نفسه ومراده نهي من يخاطبه كما سيأتي قريبا في باب الغلول . وقوله فيه " ابن عوف " هو عبد الرحمن ، وابن عفان هو عثمان ، وخصهما بالذكر على طريق المثال لكثرة نعمهما لأنهما كانا من مياسير الصحابة ، ولم يرد بذلك منعهما البتة ، وإنما أراد أنه إذا لم يسع المرعى إلا نعم أحد الفريقين فنعم المقلين أولى ، فنهاه عن إيثارهما على غيرهما أو تقديمهما قبل غيرهما ، وقد بين حكمة ذلك في نفس الخبر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ببيته ) كذا للأكثر بمثناة قبلها تحتانية ساكنة بلفظ مفرد البيت ، وللكشميهني بنون قبل التحتانية بلفظ جمع البنين ، والمعنى متقارب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين ) حذف المقول لدلالة السياق عليه ، ولأنه لا يتعين في لفظ ، والتقدير يا أمير المؤمنين أنا فقير ، يا أمير المؤمنين أنا أحق ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 205 ] قوله : ( أفتاركهم أنا ) استفهام إنكار ومعناه لا أتركهم محتاجين ، وقوله " لا أبا لك " بفتح الهمزة والموحدة ، وظاهره الدعاء عليه ، لكنه على مجازه لا على حقيقته ، وهو بغير تنوين لأنه صار شبيها بالمضاف وإلا فالأصل لا أبا لك ، والحاصل أنهم لو منعوا من الماء والكلإ لهلكت مواشيهم فاحتاج إلى تعويضهم بصرف الذهب والفضة لهم لسد خلتهم ، وربما عارض ذلك الاحتياج إلى النقد في صرفه في مهم آخر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنهم ليرون ) بضم التحتانية أوله بمعنى الظن ، وبفتحها بمعنى الاعتقاد .

                                                                                                                                                                                                        وقوله " أني قد ظلمتهم " قال ابن التين يريد أرباب المواشي الكثيرة ، كذا قال ، والذي يظهر لي أنه أراد أرباب المواشي القليلة لأنهم المعظم والأكثر وهم أهل تلك البلاد من بوادي المدينة ، ويدل على ذلك قول عمر " إنها لبلادهم " وإنما ساغ لعمر ذلك لأنه كان مواتا فحماه لنعم الصدقة لمصلحة عموم المسلمين .

                                                                                                                                                                                                        وقد أخرج ابن سعد في الطبقات " عن معن بن عيسى عن مالك عن زيد بن أسلم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه " أن عمر أتاه رجل من أهل البادية فقال : يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام ، ثم تحمى علينا ، فجعل عمر ينفخ ويفتل شاربه ، وأخرجه الدارقطني في " غرائب مالك " من طريق ابن وهب عن مالك بنحوه وزاد " فلما رأى الرجل ذلك ألح عليه ، فلما أكثر عليه قال : المال مال الله والعباد عباد الله ، ما أنا بفاعل " وقال ابن المنير : لم يدخل ابن عفان ولا ابن عوف في قوله : قاتلوا عليها في الجاهلية ، فالكلام عائد على عموم أهل المدينة لا عليهما والله أعلم . وقال المهلب : إنما قال عمر ذلك لأن أهل المدينة أسلموا عفوا وكانت أموالهم لهم ، ولهذا ساوم بني النجار بمكان مسجده ، قال فاتفق العلماء على أن من أسلم من أهل الصلح فهو أحق بأرضه ، ومن أسلم من أهل العنوة فأرضه فيء للمسلمين ، لأن أهل العنوة غلبوا على بلادهم كما غلبوا على أموالهم بخلاف أهل الصلح في ذلك . وفي نقل الاتفاق نظر لما بينا أول الباب ، وهو ومن بعده حملوا الأرض على أرض أهل المدينة التي أسلم أهلها عليها وهي في ملكهم ، وليس المراد ذلك هنا ، وإنما حمى عمر بعض الموات مما فيه نبات من غير معالجة أحد وخص إبل الصدقة وخيول المجاهدين ، وأذن لمن كان مقلا أن يرعى فيه مواشيه رفقا به ، فلا حجة فيه للمخالف .

                                                                                                                                                                                                        وأما قوله : يرون أني ظلمتهم ، فأشار به إلى أنهم يدعون أنهم أولى به ; لا أنهم منعوا حقهم الواجب لهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ) أي من الإبل التي كان يحمل عليها من لا يجد ما يركب ، وجاء عن مالك أن عدة ما كان في الحمى في عهد عمر بلغ أربعين ألفا من إبل وخيل وغيرها ، وفي الحديث ما كان فيه عمر من القوة وجودة النظر والشفقة على المسلمين . وهذا الحديث ليس في الموطإ [1] قال الدارقطني في " غرائب مالك " هو حديث غريب صحيح .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية