الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا استأجر ظئرا ترضع صبيا له سنتين حتى تفطمه بأجر معلوم فهو جائز ; لأنه استأجرها بعمل معلوم ببدل معلوم وطعامها وكسوتها على نفسها ; لأنها شرطت عليهم الأجر المسمى بمقابلة عملها ففيما سوى ذلك حالها بعد العقد كما قبل العقد ، وترضعه في بيتها إن شاءت وليس عليها أن ترضعه في بيت أبيه ; لأنها بالعقد التزمت فعل الإرضاع وما التزمت المقام في بيتهم وهي تقدر على إيفاء ما التزمت في بيت نفسها فإن اشترطت كسوتها كل سنة ثلاثة أثواب زطية واشترطت عند الفطام دراهم مسماة ، وقطيفة ، ومسحا ، وفراشافذلك جائز استحسانا عند أبي حنيفة رحمه الله في هذا الموضع خاصة دون سائر الإجارات ، وفي قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله لا يجوز وهو القياس ، وكذلك إن اشترطت عليهم طعاما فهو على هذا الخلاف

وجه القياس أن هذا عقد إجارة فلا يصح إلا بإعلام الأجرة كما في سائر الإجارات ، والطعام مجهول الجنس والمقدار والصفة ، والكسوة كذلك هنا ، وهذه الجهالة تمنع صحة التسمية كما في سائر الإجارات ; لأنها تفضي إلى المنازعة فكذلك هنا ، وهذا قياس يشده الأثر وهو قوله : صلى الله عليه وسلم { من استأجر أجيرا فليعلمه أجره } فإن أقامت العمل فلها أجر مثلها ; لأنها وفت المعقود عليه بحكم عقد فاسد ، إلا أن يسموا لها ثيابا معلومة الجنس والطول والعرض والرقعة ويضربوا لذلك أجلا ويسموا لها كل يوم كيلا من الدقيق معلوما فحينئذ يجوز كما في سائر الإجارات والبيوع وأبو حنيفة رحمه الله استدل بقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } يعني أجرا على الإرضاع بعد الطلاق .

( ألا ترى ) أنه قال : { وعلى الوارث مثل ذلك } ، وذلك أجر الرضاع لا نفقة النكاح ولأن الناس تعارفوا بهذا العقد بهذه الصفة وليس [ ص: 120 ] في عينه نص يبطله وفي النزوع عن هذه العادة حرج ; لأنهم لا يعدون الظئر من أهل بيتهم فالظاهر أنهم يستنكفون عن تقدير طعامها وكسوتها كما يستنكفون عن تقدير طعام الزوجات وكسوتهن ، ثم إنما لم يجوز هذا في سائر الإجارات لتمكن المنازعة في الثاني ، وذلك لا يوجد هنا ; لأنهم لا يمنعون الظئر كفايتها من الطعام ; لأن منفعة ذلك ترجع إلى ولدهم وربما يكلفونها أن تأكل فوق الشبع ليكثر لبنها ، وكذلك لا يمنعونها كفايتها من الكسوة لكون ولدهم في حجرها ، ثم أحد العوضين في هذا العقد يتوسع فيه ما لا يتوسع في سائر العقود حتى أن اللبن الذي هو عين حقيقة يستحق بهذه الإجارة دون غيرها ، فكذلك يتوسع في العوض الآخر في هذا العقد ما لا يتوسع في غيره

وإذا جاز العقد عنده كان لها الوسط من المتاع والثياب المسماة ; لأنها لا تستحق ذلك بمطلق التسمية في عقد المعاوضة فينصرف إلى الوسط كما في الصداق إذا سمى لها عبدا ، أو ثوبا هرويا وهذا ; لأن في تعيين الوسط نظر من الجانبين ولو اشترطوا عليها أن ترضع الصبي في منزلهم فهو جائز كما في سائر الإجارات إذا اشترط المستأجر على الأجير إقامة العمل في بيته وهذا ; لأنهم ينتفعون بهذا الشرط فإنها تتعاهد الصبي في بيتهم ما لا تتعاهده في بيت نفسها ، وربما لا يتحمل قلبهما غيبة الولد عنهما

والشرط المفيد في العقد معتبر ، فإن كان لها زوج فأجرت نفسها للظئرة بغير إذنه فللزوج أن يبطل عقد الإجارة قيل : هذا إذا كان الزوج مما يشينه أن تكون زوجته ظئرا فلدفع الضرر عن نفسه يكون له أن يفسخ العقد ، فأما إذا كان ممن لا يشينه ذلك لا يكون له أن يفسخ والأصح أن له ذلك في الوجهين ; لأنها إن كانت ترضعه في بيت أبويه فللزوج أن يمنعها من الخروج من منزله ، وإن كانت ترضعه في بيت نفسها فللزوج أن يمنعها من إدخال صبي الغير منزله ; ولأنها في الإرضاع والسهر بالليل تتعب نفسها ، وذلك ينقص من جمالها ، وجمالها حق الزوج فكان له أن يمنعها من الإضرار به في حقه كما يمنعها من التطوعات ، وهذا إذا كان زوجها معروفا ، فإن كان مجهولا لا تعرف أنها امرأته إلا بقولها فليس له أن ينقض الإجارة لأن العقد قد لزمها ، وقولها غير مقبول في حق من استأجرها ولأنه تتمكن تهمة المراضعة مع هذا الرجل بأن يقر له بالنكاح ليفسخ الإجارة ، وهو نظير المنكوحة إذا كانت مجهولة الحال فأقرت بالرق على نفسها فإنها لا تصدق في إبطال النكاح فإن هلك الصبي بعد سنة فلها أجر ما مضى ولها مما اشترطت من الكسوة والدراهم عند الفطام بحساب ذلك ; لأنها أوفت المعقود عليه في المدة الماضية فتقرر حقها فيما [ ص: 121 ] يقابل ذلك من البدل ، ثم يتحقق فوات المقصود فيما بقي فلا يجب ما يخصه من البدل

ولو ضاع الصبي من يدها ، أو وقع فمات ، أو سرق من حلي الصبي ، أو من ثيابه شيء لم تضمن الظئر شيئا ; لأنها بمنزلة الأجير الخاص فإن العقد ورد على منافعها في المدة .

( ألا ترى ) أنه ليس لها أن تشغل نفسها في المدة عن رضاع الصبي ، ولا تؤاجر نفسها من غيرهم لمثل ذلك العمل والأجير الخاص أمين فيما في يده بخلاف الأجير المشترك على قول من يضمنه وليس عليها من عمل أبوي الصبي شيء إن كلفوها عجنا ، أو طبخا ، أو خبزا ; لأنها التزمت بالعقد الظئورة ، وهذه الأعمال لا تتصل بالظئورة فلا يلزمها إلا أن تتطوع به ، فأما عمل الصبي وغسل ثيابه وما يصلحه مما يعالج به الصبيان من الدهن والريحان فهو على الظئر ; لأن هذا من عمل الظئورة ، وإن كان الصبي يأكل الطعام فليس على الظئر أن تشتري له الطعام ; لأنها التزمت تربيته بلبنها دون الطعام ولكن ذلك كله على أهله وعليها أن تهيئه له ; لأن ذلك من عمل الظئورة فقد جعل الدهن والريحان عليها ، بخلاف الطعام وهذا بناء على عادة أهل الكوفة والمرجع في ذلك إلى العرف في كل موضع وهو أصل كبير في الإجارة فإن ما يكون من التوابع غير مشروط في العقد يعتبر فيه العرف في كل بلدة حتى قيل : في استئجار اللبان : إن الزنبيل والملبن على صاحب اللبن بناء على عرفهم ، والسلك والإبرة على الخياط باعتبار العرف والدقيق على صاحب الثوب دون الحائك فإن كان عرف أهل البلدة بخلاف ذلك فهو على ما يتعارفون ، وحثي التراب على الحفار في القبر باعتبار العرف ، وإخراج الخبز من التنور على الخباز وغرف المرقة في القصاع على الطباخ إذا استؤجر لطبخ عرس

وإن استؤجر لطبخ قدر خاص فليس ذلك عليه لانعدام العرف فيه ، وإدخال الجمل المنزل على الحمال إذا حمله على ظهره وليس عليه أن يصعد به على السطح ، أو الغرفة للعرف ، وإذا استأجر دابة ليحمل عليها حملا إلى منزله فإنزال الحمل عن ظهر الدابة على المكاري وفي إدخاله المنزل يعتبر العرف ، والإكاف على صاحب الدابة وفي الجواليف والحبل يعتبر العرف وكذلك في السرج واللجام يعتبر العرف فهو الأصل ، أما التوابع التي لا تشترط عند العقد يعتبر العرف فيها وبه يفصل عند المنازعة وإذا أراد أهل الصبي أن يخرجوا الظئر قبل الأجل فليس لهم ذلك إلا من عذر ; لأن العقد لازم من الجانبين إلا أن الإجارة تنفسخ بالعذر عندنا على ما نبينه في بابه ، ثم العذر لهم في ذلك أن لا يأخذ الصبي من لبنها فيفوت به ما هو المقصود ولا عذر أبين من ذلك ، وكذلك إذا تقايأ لبنها ; لأن ذلك يضر بالصبي عادة [ ص: 122 ] فالحاجة إلى دفع الضرر عنه عذر في فسخ الإجارة ، وكذلك إذا حبلت ; لأن لبنها يفسد بذلك ويضر بالصبي فإذا خافوا على الصبي من ذلك كان لهم عذر وكذلك إن كانت سارقة ; فإنهم يخافون على متاعهم إن كانت في بيتهم وعلى متاع الصبي وحليته إذا كان معها ، وكذلك إن كانت فاجرة بينة فجورها فيخافون على أنفسهم فهذا عذر ; لأنها تشتغل بالفجور وبسببه ينقص من قيامها بمصالح الصبي وربما تحمل من الفجور فيفسد ذلك لبنها وهذا بخلاف ما إذا كانت كافرة ; لأن كفرها في اعتقادها ولا يضر ذلك بالصبي ، ولا يبعد أن يقال : عيب الفجور في هذا فوق عيب الكفر .

( ألا ترى ) أنه قد كان في بعض نساء الرسل كافرة كامرأة نوح ولوط عليهما السلام { وما بغت امرأة نبي قط هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم } ، وكذلك إذا أرادوا سفرا فتأبى أن تخرج معهم فهذا عذر ; لأنه لا يتعذر الخروج للسفر عند الحاجة لما عليهم من ذلك من الضرر ولا تجبر هي على الخروج معهم ; لأنها ما التزمت تحمل ضرر السفر ولا يمكنهم ترك الصبي عندها ; لأن غيبتهم عن الولد توحشهم فلدفع الضرر يكون لهم أن يفسخوا الإجارة

وليس للظئر أن تخرج من عندهم إلا من عذر ، وعذرها من مرض يصيبها لا تستطيع معه الرضاع ; لأنها تتضرر بذلك وربما يصيبه انضمام تعب الرضاع إلى المرض ولهم أن يخرجوها إذا مرضت ; لأنها تعجز بالمرض عما هو مقصودهم وهو الإرضاع فربما يقل بسببه لبنها أو يفسد ، وكذلك إن لم يكن زوجها سلم الإجارة فله أن يخرجها لما بينا ، وكذلك إن لم تكن معروفة بالظئورة فلها أن تفسخ ; لأنها ربما لا تعرف عند ابتداء العقد ما تبتلى به من المقاساة والسهر ، فإذا جربت ذلك تضررت ولأنها تغيرت من هذا العمل على ما قيل : تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ، وما كانت تعرف ما يلحقها من الذل ، إذا لم تكن معروفة بذلك فإذا عملت كان لها أن تفسخ العقد ، وإن كان أهل الصبي يؤذونها بألسنتهم كفوا ; لأن ذلك ظلم منهم ، والكف عن الظلم واجب ، وإن ساءوا أخلاقهم معها كفوا عنها ; لأن سوء الخلق مذموم ، فإذا لم يكفوا عنها كان لها أن تخرج ; لأنها تتضرر بالصبر على الأذى وسوء الخلق

ولو كان زوجها قد سلم الإجارة فأرادوا منعه من غشيانها مخافة الحبل وأن يضر ذلك بالصبي ، فلهم أن يمنعوه ذلك في منزلهم ; لأن المنزل لهم فلا يكون له أن يدخله إلا بإذنهم ، وإن لقيها في منزله فله أن يغشاها ; لأن ذلك مستحق له بالنكاح ، وبتسليم الإجارة لا يسقط حقه عما كان مستحقا له فلا تستطيع الظئر أن تمنع نفسها ولا يسع أهل الصبي أن يمنعوها عن ذلك ، ولا يسع الظئر أن تطعم أحدا من طعامهم بغير أمرهم [ ص: 123 ] لأنها في ذلك كغيرها من الأجنبيات فإن زارها أحد من ولدها فلهم أن يمنعوه من الكينونة عندها ; لأن المنزل لهم ، ولهم أن يمنعوها من الزيارة إذا كانت تضر بالصبي دفعا للضرر عنه ; لأنها قد التزمت ما يرجع إلى إصلاح الصبي ودفع الضرر عنه ، وما كان من ذلك لا يضر بالصبي فليس لهم منعها ; لأنها حرة مالكة أمر نفسها فيما وراء ما التزمت لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية